هذا التيار العالمي الكبير أضاف إلى التصور الإرجائي الشائع أصلا بين المسلمين قوة وتعميما حتى غدا وكأنما هو من المسلمات الواضحة.
وهو التصور الذي يفترض أن الناس قسمان: عابد، وغير عابد.
والأول: " العابد "، يشمل المنتمين إلى الأديان ولا سيما الإسلام.
والآخر: يشمل الدول - أو الأفراد - اللادينية.
ثم إن " العابدين " - حسب هذا التصور - ينقسمون قسمين:
1- مؤمن بقلبه عامل بجوارحه.
2- مؤمن بقلبه غير عامل بجوارحه.
وهذا التقسيم منطقي مع حقيقة الإيمان - كما يتخيلونها - وهي أنه مادة جامدة معزولة في ضمير صاحبها لا تزيد ولا تنقص ولا تقتضي أثرا ولا تستدعي متعلقا.
فهذا الإيمان مفقود عند كثير من الناس وهم الصنف غير العابد، وموجود عند الصنف العابد في الحالتين: حالة العمل وحالة عدمه.
واستكمالا للحقيقة الكلية السابقة، وردا على هذا الزعم الخطأ - أعني زعم وجود إنسان غير عابد - نلقي مزيدا من الضوء على حقيقة النفس الإنسانية من جهة "الدوافع" التي تحركها للعمل والتي لا تخلو منها نفس قط، وكيف أن لهذه الحركة بالضرورة غاية تسعى إليها، وأن الطريق إلى هذه الغاية لا يكون إلى على قنطرة أعمال القلوب من الخوف والرجاء والحب والكره ونحوها مما يجعله في محصلته النهائية والحقيقية "عبادة" مهما كابر بعض بني آدم فيها، فهم عابدون حقيقة وجوهراً وإن أنكروا العبودية لفظا ومصطلحا.
ثم نبين - بإذن الله - علاقة العمل الخارجي بما في النفس من الدوافع والغايات مما يظهر به استحالة الشطر الثاني من الفرض الذهني الذي تخيله المرجئة؛ وهو وجود مؤمن غير عامل.
إن قضية "الدوافع" - ولازمها الفطري وهو "الضوابط" - لتعود إلى خاصية أخرى من خصائص النفس البشرية - عدا ما سبق تقريره من خاصية: "الحركة الدائمة حرثا وهماً" - وهذه الخاصية الأخرى هي: "الافتقار الذاتي إلى تحصيل النافع والملائم ودفع الضار والمنافر".