قال العلامة ابن القيم رحمه الله: تضمن هذا الحديث أصولا عظيمة من أصول الإيمان:
أحدها: أن الله سبحانه موصوف بالمحبة وأنه يحب حقيقة.
الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها، فهو القوي ويحب المؤمن القوي، وهو وتر ويحب الوتر، وجميل يحب الجمال; وعليم يحب العلماء، ونظيف يحب النظافة، ومؤمن يحب المؤمنين، ومحسن يحب المحسنين، وصابر يحب الصابرين، وشاكر يحب الشاكرين.
ومنها: أن محبته للمؤمنين تتفاضل، فيحب بعضهم أكثر من بعض.
ومنها: أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده. والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع. فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودا، وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصا، وأن يكون حرصه على ما ينتفع به، فإن حرص على ما لا ينفعه أو فعل ما ينفعه من غير حرص؛ فإنه من الكمال بقدر ما فاته من ذلك، فالخير كله في الحرص على ما ينفع.
ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه أمره أن يستعين بالله ليجتمع له مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [1]. فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله تعالى. ولا يتم إلا بمعونته فأمره أن يعبده وأن يستعين به. فالحريص على ما ينفعه، المستعين بالله ضد العاجز. فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده ومصدرها منه ومردها إليه.
فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان: عجز. وهو مفتاح عمل الشيطان; فيلقيه العجز إلى "لو" ولا فائدة من "لو" هاهنا، بل هي مفتاح اللوم والعجز والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان. فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتتاح عمله بهذا الافتتاح، وأمره بالحالة الثانية، وهي النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد، قلم يبق له هاهنا أنفع من شهود القدر، ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجوب
المقدور، وإن انتفت امتنع وجوده; ولهذا قال: " فإن غلبك أمر فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل "[2]. فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين: حالة حصول المطلوب، وحالة فواته، فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدا، بل هو أشد إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار، والقيام بالعبودية ظاهرا وباطنا في حالتي حصول المطلوب وعدمه، وبالله التوفيق. [1] سورة الفاتحة آية: 5. [2] مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) , وأحمد (2/366) .