وأما الآية الثانية: وهي قوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .
وهذه الآية أيضاً: كسابقتها تبين أن العبد حين يصاب بالشدة والبلاء تقوى صلته بربه في هذه الحال فيدعوه ويضرع إليه أن يزيل عنه ما حل به من الكوارث وينيب إليه إنابة صادقة ويتجلى أمام عينيه الصراط المستقيم ويعلم علم يقين أن كل ما سوى الله من الأنداد والأوثان والأصنام وغيرها من المخلوقات ليس لهم القدرة على كشف ما به، فعند ذلك يلجأ إلى الله ويفيق من ظلمات الجهل وركام الشرك وينقشع عنه كل ما يخالجه من الأوهام الباطلة فيتجه إلى الله بالدعاء الخالص واللجوء الصحيح ويكفر بكل ما سوى الله ـ تعالى ـ من الشركاء والشفعاء المزعومين.
أما إذا ذهب عنه الضر وحل به الرخاء وخوله الله بشتى النعم فإن حاله ينعكس غالباً وهنا يدنس فطرته التي كانت قد استيقظت في حالة الشدة فيلبسها لباس الشرك وينسى توحيده لربه وإنابته إليه وتطلعه إليه في إزالة ما به من الفقر والمرض وسائر أنواع الكرب فيبدأ بالكفر بنعم الله وينسبها إلى نفسه وأنها إنما جاءت إليه لذكائه ودقة حيلته ويكفر بربه الذي هو مصدر كل النعم.
{ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .
قال الحافظ ابن كثير: "يخبر تعالى أن الإنسان في حال الضر يضرع إلى الله وينيب إليه، ويدعوه، ثم إذا خوله نعمة منه طغى وبغى وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} لعلم الله بي بأنني أستحق ذلك ولولا أني عند الله خصيص لما خولني هذا. قال قتادة: على علم عندي قال الله ـ عز وجل ـ: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي ليس الأمر كما زعم بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصي؟ مع علم الله المتقدم بذلك فهي فتنة أي اختبار: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ولهذا يدعون ما يدعون ويقولون ما يقولون" اهـ1.
فيجب على الإنسان أن يعلم أن كل ما به من نعمة فهي من الله ـ تعالى ـ وأنه ليس له حول ولا قوة في جر النفع إلى نفسه أو دفع الضر عنها والإنسان عندما ينسب النعم التي حباه
1- تفسير القرآن العظيم 6/99.