responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : التحرير والتنوير نویسنده : ابن عاشور    جلد : 1  صفحه : 174
التَّصَرُّفَاتِ تَصَرُّفَاتُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالتَّشْرِيعِ الرَّاجِعِ إِلَى حِفْظِ مَصَالِحِ النَّاسِ عَامَّةً وَخَاصَّةً، وَكَانَ مُعْظَمُ تِلْكَ التَّشْرِيعَاتِ مُشْتَمِلًا عَلَى إِخْرَاجِ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ الْهَوَى الَّذِي يُلَائِمُهُ اتِّبَاعُهُ وَفِي نَزْعِهِ عَنْهُ إِرْغَامٌ لَهُ وَمَشَقَّةٌ، خِيفَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَوْصَافُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مُخَفِّفًا عَنِ الْمُكَلَّفِينَ عِبْءَ الْعِصْيَانِ لِمَا أُمِرُوا بِهِ وَمُثِيرًا لِأَطْمَاعِهِمْ فِي الْعَفْوِ عَنِ اسْتِخْفَافِهِمْ بِذَلِكَ وَأَنْ يَمْتَلِكَهُمُ الطَّمَعُ فَيَعْتَمِدُوا عَلَى مَا عَلِمُوا مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ الْمُؤَكَّدَةِ فَلَا يَخْشَوْا غَائِلَةَ الْإِعْرَاضِ عَنِ التَّكَالِيفِ، لِذَلِكَ كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْمَقَامِ تَعْقِيبُهُ بِذِكْرِ أَنَّهُ صَاحِبُ الْحُكْمِ فِي يَوْم الْجَزَاء: الْيَوْمَ [1] تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [غَافِر: 17] لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ سَبَبٌ فِي الِامْتِثَالِ وَالِاجْتِنَابِ لِحِفْظِ مَصَالِحِ الْعَالَمِ، وَأُحِيطَ ذَلِكَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَجُعِلَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِذَلِكَ اخْتِيرَ هُنَا وَصْفُ مَلِكِ أَوْ مَالِكِ مُضَافًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. فَأَمَّا مَلِكٌ فَهُوَ مُؤْذِنٌ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ وَعَدَمِ الْهَوَادَةِ فِيهِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمَلِكِ أَنْ يُدَبِّرَ صَلَاحَ الرَّعِيَّةِ وَيَذُبَّ عَنْهُمْ، وَلِذَلِكَ أَقَامَ النَّاسُ الْمُلُوكَ عَلَيْهِمْ. وَلَوْ قِيلَ رَبُّ يَوْمِ الدِّينِ لَكَانَ فِيهِ مَطْمَعٌ لِلْمُفْسِدِينَ يَجِدُونَ مِنْ شَأْنِ الرَّبِّ
رَحْمَةً وَصَفْحًا، وَأَمَّا مَالِكٌ فَمِثْلُ تِلْكَ فِي إِشْعَارِهِ بِإِقَامَةِ الْجَزَاءِ عَلَى أَوْفَقِ كَيْفِيَّاتِهِ بِالْأَفْعَالِ الْمُجْزَى عَلَيْهَا.
فَإِنْ قُلْتَ فَإِذَا كَانَ إِجْرَاءُ الْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ مُؤْذِنًا بِأَنَّ جَمِيعَ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِينَا رَحْمَةٌ فَقَدْ كَفَى ذَلِكَ فِي الْحَثِّ عَلَى الِامْتِثَالِ وَالِانْتِهَاءِ إِذِ الْمَرْءُ لَا يُخَالِفُ مَا هُوَ رَحْمَةٌ بِهِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَنْسَاقَ إِلَى الشَّرِيعَةِ بِاخْتِيَارِهِ. قُلْتُ الْمُخَاطَبُونَ مَرَاتِبٌ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يَهْتَدِي لِفَهْمِ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ تَعْقِيبِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْتَدِي لِفَهْمِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَظُنُّ أَنَّ فِي فِعْلِ الْمُلَائِمِ لَهُ رَحْمَةً بِهِ أَيْضًا فَرُبَّمَا آثَرَ الرَّحْمَةَ الْمُلَائِمَةَ عَلَى الرَّحْمَةِ الْمُنَافِرَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُفِيدَةً لَهُ، وَرُبَّمَا تَأَوَّلَ الرَّحْمَةَ بِأَنَّهَا رَحْمَةٌ لِلْعُمُومِ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَنَالُهُ مِنْهَا حَظٌّ ضَعِيفٌ فَآثَرَ رَحْمَةَ حَظِّهِ الْخَاصِّ بِهِ عَلَى رَحْمَةِ حَظِّهِ التَّابِعِ لِلْعَامَّةِ. وَرُبَّمَا تَأَوَّلَ أَنَّ الرَّحْمَةَ فِي تَكَالِيفِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرٌ أَغْلَبِيٌّ لَا مُطَّرِدٌ وَأَنَّ وَصفه تَعَالَى بالرحمن بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ التَّشْرِيعِ مِنْ تَكْوِينٍ وَرِزْقٍ وَإِحْيَاءٍ، وَرُبَّمَا ظَنَّ أَنَّ الرَّحْمَةَ فِي الْمَآلِ فَآثَرَ عَاجِلَ مَا يُلَائِمُهُ. وَرُبَّمَا عَلِمَ جَمِيعَ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ التَّكَالِيفُ مِنَ الْمَصَالِحِ بِاطِّرَادٍ وَلَكِنَّهُ مَلَكَتْهُ شَهْوَتُهُ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ شِقْوَتُهُ. فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مَظِنَّةٌ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلِأَمْثَالِهِمْ جَاءَ تَعْقِيبُ الصِّفَاتِ الْمَاضِيَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِمَا سَيَحْصُلُ مِنَ الْجَزَاءِ يَوْمَ الْحِسَابِ لِئَلَّا يَفْسُدَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْرِيعِ حِينَ تَتَلَقَّفُهُ أَفْهَامُ كُلِّ مُتَأَوِّلٍ مُضَيِّعٍ.

[1] فِي المطبوعة: يَوْم.
نام کتاب : التحرير والتنوير نویسنده : ابن عاشور    جلد : 1  صفحه : 174
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست