responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : التحرير والتنوير نویسنده : ابن عاشور    جلد : 1  صفحه : 281
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ طِبَاعٌ تَنْشَأُ عَنِ النِّفَاقِ أَوْ تُقَارِنُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَلَا سِيَّمَا النِّفَاقُ فِي الدِّينِ فَقَدْ نَبَّهَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَذَامِّ ذَلِكَ تَعْلِيمًا وَتَرْبِيَةً فَإِنَّ النِّفَاقَ يَعْتَمِدُ عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ وَهِيَ:
الْكَذِبُ الْقَوْلِيُّ، وَالْكَذِبُ الْفِعْلِيُّ وَهُوَ الْخِدَاعُ، وَيُقَارِنُ ذَلِكَ الْخَوْفَ لِأَنَّ الْكَذِبَ وَالْخِدَاعَ إِنَّمَا يَصْدُرَانِ مِمَّنْ يَتَوَقَّى إِظْهَارَ حَقِيقَةِ أَمْرِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِخَوْفٍ ضُرٍّ أَوْ لِخَوْفِ إِخْفَاقِ سَعْيٍ وَكِلَاهُمَا مُؤْذِنٌ بِقِلَّةِ الشَّجَاعَةِ وَالثَّبَاتِ وَالثِّقَةِ بِالنَّفْسِ وَبِحُسْنِ السُّلُوكِ، ثُمَّ إِنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ مِنْ هَاتِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ الذَّمِيمَةِ تُوَكِّدُ هَنَوَاتٍ أُخْرَى، فَالْكَذِبُ يَنْشَأُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْبَلَهِ لِأَنَّ الْكَاذِبَ يَعْتَقِدُ أَنَّ كَذِبَهُ يَتَمَشَّى عِنْدَ النَّاسِ وَهَذَا مِنْ قِلَّةِ الذَّكَاءِ لِأَنَّ النَّبِيهَ يَعْلَمُ أَنَّ فِي النَّاسِ مِثْلَهُ وَخَيْرًا مِنْهُ، ثُمَّ الْبَلَهُ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهْلِ بِالْحَقَائِقِ وَبِمَرَاتِبِ الْعُقُولِ، وَلِأَنَّ الْكَذِبَ يُعَوِّدُ فِكْرَ صَاحِبِهِ بِالْحَقَائِقِ الْمُحَرَّفَةِ وَتَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مَعَ طُولِ الِاسْتِرْسَالِ فِي ذَلِكَ حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا اعْتَقَدَ مَا اخْتَلَقَهُ وَاقِعًا، وَيَنْشَأُ عَنِ الْأَمْرَيْنِ السَّفَهُ وَهُوَ خَلَلٌ فِي الرَّأْيِ وَأَفَنٌ فِي الْعَقْلِ، وَقَدْ أَصْبَحَ عُلَمَاءُ الْأَخْلَاقِ وَالطِّبِّ يَعُدُّونَ الْكَذِبَ مِنْ أَمْرَاضِ الدِّمَاغِ.
وَأَمَّا نَشْأَةُ الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ وَالْكُفْرِ وَفَسَادِ الرَّأْيِ عَنِ الْغَبَاوَةِ وَالْجَهْلِ وَالسَّفَهِ فَظَاهِرَةٌ، وَكَذَلِكَ نَشْأَةُ الْعُزْلَةِ وَالْجُبْنِ وَالتَّسَتُّرِ عَنِ الْخَوْفِ، وَأَمَّا نَشْأَةُ عَدَاوَةِ النَّاسِ عَنِ الْخِدَاعِ فَلِأَنَّ عَدَاوَةَ الْأَضْدَادِ تَبْدَأُ مِنْ شُعُورِهِمْ بِخِدَاعِهِ، وَتَعْقُبُهَا عَدَاوَةُ الْأَصْحَابِ لِأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا تَفَنُّنَ ذَلِكَ الصَّاحِبِ فِي النِّفَاقِ وَالْخِدَاعِ دَاخَلَهُمُ الشَّكُّ أَنْ يَكُونَ إِخْلَاصُهُ الَّذِي يُظْهِرُهُ لَهُمْ هُوَ مِنَ الْمُخَادَعَةِ فَإِذَا حَصَلَتْ عَدَاوَةُ الْفَرِيقَيْنِ تَصَدَّى النَّاسُ كُلُّهُمْ لِلتَّوَقِّي مِنْهُ وَالنِّكَايَةِ بِهِ، وَتَصَدَّى هُوَ لِلْمَكْرِ بِهِمْ وَالْفَسَادِ لِيَصِلَ إِلَى مَرَامِهِ، فَرَمَتْهُ النَّاسُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ وَاجْتَنَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَصِيرَ هُزْأَةً لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
وَقَدْ رَأَيْتُمْ أَنَّ النَّاشِئَ عَنْ مَرَضِ النِّفَاقِ وَالزَّائِدَ فِيهِ هُوَ زِيَادَةُ ذَلِكَ النَّاشِئِ أَيْ تَأَصُّلُهُ وَتَمَكُّنُهُ وَتَوَلُّدُ مَذَمَّاتٍ أُخْرَى عَنْهُ، وَلَعَلَّ تَنْكِيرَ (مَرَضٍ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَشْعَرَ بِهَذَا فَإِنَّ تَنْكِيرَ الْأَوَّلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى تَنْوِيعٍ أَوْ تَكْثِيرٍ، وَتَنْكِيرَ الثَّانِي لِيُشِيرَ إِلَى أَنَّ الْمَزِيدَ مَرَضٌ آخَرُ عَلَى قَاعِدَةِ إِعَادَةِ النَّكِرَةِ نَكِرَةً.
وَإِنَّمَا أُسْنِدَتْ زِيَادَةُ مَرَضِ قُلُوبِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ زِيَادَةَ هَاتِهِ الْأَمْرَاضِ الْقَلْبِيَّةِ مِنْ ذَاتِهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ هَذَا التَّوَلُّدَ وَأَسْبَابَهُ وَكَانَ أَمْرًا خَفِيًّا نَبَّهَ النَّاسَ عَلَى خَطَرِ الِاسْتِرْسَالِ فِي النَّوَايَا الْخَبِيثَةِ وَالْأَعْمَالِ الْمُنْكَرَةِ، وَأَنَّهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَزِيدَ تِلْكَ النَّوَايَا تَمَكُّنًا

نام کتاب : التحرير والتنوير نویسنده : ابن عاشور    جلد : 1  صفحه : 281
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست