responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : التحرير والتنوير نویسنده : ابن عاشور    جلد : 1  صفحه : 359
التَّمْثِيلُ إِلَّا مُكَابَرَةً وَمُعَانِدَةً فَإِنَّهُمْ لَمَّا غُلِبُوا بِالتَّحَدِّي وَعَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ تَعَلَّقُوا فِي مَعَاذِيرِهِمْ بِهَاتِهِ السَّفَاسِفِ، وَالْمُكَابِرُ يَقُولُ مَا لَا يَعْتَقِدُ، وَالْمَحْجُوجُ الْمَبْهُوتُ يَسْتَعْوِجُ الْمُسْتَقِيمَ وَيُخْفِي الْوَاضِحَ، وَإِلَى هَذَا الثَّانِي يَنْزِعُ كَلَامُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَوْفَقُ بِالسِّيَاقِ. وَالسُّورَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَدَنِيَّةً فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ
يَزَالُوا يُلْقُونَ الشُّبَهَ فِي صِحَّةِ الرِّسَالَةِ وَيُشِيعُونَ ذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِوَاسِطَةِ الْمُنَافِقِينَ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ بَعْدَهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ: وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً.
فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَكُنِ الرَّدُّ عَقِبَ نُزُولِ الْآيَاتِ الْوَاقِعِ فِيهَا التَّمْثِيلُ الَّذِي أَنْكَرُوهُ فَإِنَّ الْبِدَارَ بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ فِي مقاله شُبْهَة رائجة يَكُونُ أَقْطَعَ لِشُبْهَتِهِ مِنْ تَأْخِيرِهِ زَمَانًا.
قُلْنَا: الْوَجْهُ فِي تَأْخِيرِ نُزُولِهَا أَنْ يَقَعَ الرَّدُّ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِأَمْثَالٍ مُعْجَبَةٍ اقْتَضَاهَا مقَام تَشْبِيه الهيآت، فَذَلِكَ كَمَا يَمْنَعُ الْكَرِيمُ عَدُوَّهُ مِنْ عَطَاءٍ فَيَلْمِزُهُ الْمَمْنُوعُ بِلَمْزِ الْبُخْلِ، أَوْ يَتَأَخَّرُ الْكَمِيُّ عَنْ سَاحَةِ الْقِتَالِ مَكِيدَةً فَيَظُنُّهُ نَاسٌ جُبْنًا فَيُسِرُّهَا الْأَوَّلُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْقَاصِدُ فَيُعْطَيهِ عَطَاءً جَزْلًا، وَالثَّانِي حَتَّى يَكُرَّ كَرَّةً تَكُونُ الْقَاضِيَةَ عَلَى قَرْنِهِ. فَكَذَلِكَ لَمَّا أَتَى الْقُرْآنُ بِأَعْظَمِ الْأَمْثَالِ وَأَرْوَعِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ [الْبَقَرَة: 17] أَوْ كَصَيِّبٍ [الْبَقَرَة: 19] الْآيَاتِ وَقَوْلُهُ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [الْبَقَرَة: 18] أَتَى إِثْرَ ذَلِكَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ فَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ مُنَاسِبَةَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا وَقَدْ غَفَلَ عَنْ بَيَانِهِ الْمُفَسِّرُونَ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَثَلِ هُنَا الشَّبَهُ مُطْلَقًا لَا خُصُوصَ الْمركب من هَيْئَة، بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ هُنَا مَا طَعَنُوا بِهِ فِي تَشَابِيهِ الْقُرْآنِ مِثْلُ قَوْلِهِ: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً [الْحَج: 73] وَقَوْلِهِ: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً [العنكبوت: 41] .
وَمَوْقِعُ (إِنَّ) هُنَا بَيِّنٌ.
وَأَمَّا الْإِتْيَانُ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَمًا دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الصِّفَاتِ فَلِأَنَّ هَذَا الْعَلَمَ جَامِعٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَذِكْرُهُ أَوْقَعُ فِي الْإِقْنَاعِ بِأَنَّ كَلَامَهُ هُوَ أَعْلَى كَلَامٍ فِي مُرَاعَاةِ مَا هُوَ حَقِيقٌ بِالْمُرَاعَاةِ وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا إِبْطَالٌ لِتَمْوِيهِهِمْ بِأَنَّ اشْتِمَالَ الْقُرْآنِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْمَثَلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَيْسَ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ يَنْبَغِي لَهُ أَن يستحي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَلِهَذَا أَيْضًا اخْتِيرَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْنَدُ خُصُوصَ فِعْلِ الِاسْتِحْيَاءِ زِيَادَةً فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا التَّمْثِيلَ بِهَاتِهِ الْأَشْيَاءِ لِمُرَاعَاةِ كَرَاهَةِ النَّاسِ وَمِثْلُ هَذَا ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِحْيَاءِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ

نام کتاب : التحرير والتنوير نویسنده : ابن عاشور    جلد : 1  صفحه : 359
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست