responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : التحرير والتنوير نویسنده : ابن عاشور    جلد : 1  صفحه : 399
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ عَمَلًا كَانَ يَعْمَلُهُ فَوَكَلَهُ إِلَى الْإِنْسَانِ بَلِ التَّدْبِيرُ الْأَعْظَمُ لَمْ يَزَلْ لِلَّهِ تَعَالَى فَالْإِنْسَانُ هُوَ الْمَوْجُودُ الْوَحِيدُ الَّذِي اسْتَطَاعَ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي خِلْقَتِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِ بِوُجُوهٍ عَظِيمَةٍ لَا تَنْتَهِي خِلَافَ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ مِنَ الْخَلِيفَةِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ إِذَا صَحَّ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مَعْمُورَةً مِنْ قَبْلُ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ يُسَمَّوْنَ الْحِنَّ وَالْبِنَّ- بِحَاءٍ مُهْمِلَةٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ فِي الْأَوَّلِ، وَبِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ فِي الثَّانِي- وَقِيلَ اسْمُهُمُ الطَّمُّ وَالرَّمُّ- بِفَتْحِ أَوَّلِهِمَا-، وَأَحْسَبُهُ مِنَ الْمَزَاعِمِ، وَأَنَّ وَضْعَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مِنْ بَابِ قَوْلِ النَّاسِ: هَيَّانُ بْنُ بَيَّانٍ إِشَارَةً إِلَى غَيْرِ مَوْجُودٍ أَوْ غَيْرِ مَعْرُوفٍ. وَلَعَلَّ هَذَا أَنْجَزُ لِأَهْلِ الْقَصَصِ مِنْ خُرَافَاتِ الْفُرْسِ أَوِ الْيُونَانِ فَإِنَّ الْفُرْسَ زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْإِنْسَانِ فِي الْأَرْضِ جِنْسٌ اسْمُهُ الطَّمُّ وَالرَّمُّ كَانَ الْيُونَانُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مَعْمُورَةً بِمَخْلُوقَاتٍ تُدْعَى التِيتَانَ وَأَنَّ زُفَسَ وَهُوَ الْمُشْتَرِي كَبِيرُ الْأَرْبَابِ فِي اعْتِقَادِهِمْ جَلَّاهُمْ مِنَ الْأَرْضِ لِفَسَادِهِمْ. وَكُلُّ هَذَا يُنَافِيهِ سِيَاقُ الْآيَةِ فَإِنَّ تَعْقِيبَ ذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ ثُمَّ السَّمَاوَاتِ بِذِكْرِ إِرَادَتِهِ تَعَالَى جَعْلَ الْخَلِيفَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَعْلَ الْخَلِيفَةِ كَانَ أَوَّلَ الْأَحْوَالِ عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ خَلْقِهَا فَالْخَلِيفَةُ هُنَا الَّذِي يَخْلُفُ صَاحِبَ الشَّيْءِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَمْلُوكَاتِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَن يكون المخلوف مُسْتَقِرًّا فِي الْمَكَانِ مِنْ قَبْلُ، فَالْخَلِيفَةُ آدَمُ وَخَلَفِيَّتُهُ قِيَامُهُ بِتَنْفِيذِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تَعْمِيرِ الْأَرْضِ بِالْإِلْهَامِ أَوْ بِالْوَحْيِ وَتَلْقِينِ ذُرِّيَّتِهِ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ، وَمِمَّا يَشْمَلُهُ هَذَا التَّصَرُّفُ تَصَرُّفُ آدَمَ بِسَنِّ النِّظَامِ لِأَهْلِهِ وَأَهَالِيهِمْ عَلَى حَسَبِ وَفْرَةِ عَدَدِهِمْ وَاتِّسَاعِ تَصَرُّفَاتِهِمْ، فَكَانَتِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ إِيمَاءً إِلَى حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى إِقَامَةِ خَلِيفَةٍ لِتَنْفِيذِ الْفَصْلِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مُنَازَعَاتِهِمْ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ نِظَامٌ يَجْمَعُ الْبَشَرَ بِدُونِ ذَلِكَ، وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ وَبَيَّنَ الشَّرَائِعَ فَرُبَّمَا اجْتَمَعَتِ الرِّسَالَةُ وَالْخِلَافَةُ وَرُبَّمَا انْفَصَلَتَا بِحَسَبِ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ شَرَائِعِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَجَمَعَ الرِّسَالَةَ وَالْخِلَافَةَ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ غَايَةُ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الشَّرَائِعِ وَهُوَ الشَّرِيعَةُ الْخَاتِمَةُ وَلِأَنَّ امْتِزَاجَ الدِّينِ وَالْمُلْكِ هُوَ أَكْمَلُ مَظَاهِرِ الْخُطَّتَيْنِ قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ
إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ
[النِّسَاء: 64] وَلِهَذَا أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامَةِ الْخَلِيفَةِ لِحِفْظِ نِظَامِ الْأُمَّةِ وَتَنْفِيذِ الشَّرِيعَةِ وَلَمْ يُنَازِعْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْخَاصَّةِ وَلَا مِنَ الْعَامَّةِ إِلَّا الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ وَدُعَاةِ الْفِتْنَةِ فَالْمُنَاظَرَةُ مَعَ أَمْثَالِهِمْ سُدًى.

نام کتاب : التحرير والتنوير نویسنده : ابن عاشور    جلد : 1  صفحه : 399
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست