المنَاسَبَة: هذه طائفة أخرى من جرائم اليهود، فقد نقضوا الميثاق حتى رفع جبلُ الطور عليهم وأمروا أن يأخذوا بما في التوراة، فأظهروا القبول والطاعة ثم عادوا إلى الكفر والعصيان، فعبدوا العجل من دون الله، وزعموا أنهم أحباب الله، وأن الجنة خالصة لهم من دون الناس لا يدخلها أحد سواهم، وعادَوا الملائكة الأطهار وعلى رأسهم جبريل عليه السلام، وكفروا بالأنبياء والرسل، وهكذا شأنهم في سائر العصور والدهور.
اللغَة: {مِيثَاقَكُمْ} الميثاق: العهد المؤكد بيمين {الطور} هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه السلام {بِقُوَّةٍ} بعزمٍ وجدّ {وَأُشْرِبُواْ} أُشرب: سُقي جعلت قلوبهم نُشر به، يقال: أُشرب قلبُه حبَّ كذا قال زهير:
فصحوتُ عنْها بعد حبَّ داخلٍ ... والحب تُشربُه فؤادَك داءُ
{خَالِصَةً} مصدر كالعافية والعاقبة بمعنى الخلوص أي خاصة بكم لا يشارككم فيها أحد {أَحْرَصَ} الحرص: شدة الرغبة في الشيء وفي الحديث «إحرص على ما ينفعك» {بِمُزَحْزِحِهِ} الزحزحة: الإبعادُ والتنحية قال تعالى {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار} [آل عمران: 185] أي أُبعد وقال الشاعر:
خليليَّ ما بال الدُّجَى لا يُزَحْزحُ ... وما بالُ ضوء الصبح لا يتوضّح
التفسِير: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} أي اذكروا يا بني إِسرائيل حين أَخذنا عليكم العهد المؤكد على العمل بما في التوراة، ورفعنا فوقكم جبل الطور قائلين {خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} أي بعزمٍ وحزم وإلاّ طرحنا الجبل فوقكم {واسمعوا} أي سماع طاعة وقبول {قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي سمعنا قولك، وعصينا أمرك {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل} أي خالط حبُّه قلوبهم، وتغلغل في سويدائها والمراد أن حب عبادة العجل امتزج بدمائهم ودخل في قلوبهم، كما يدخل الصبغُ في الثوب، والماء في البدن {بِكُفْرِهِمْ} أي بسبب كفرهم {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} أي قل لهم على سبيل التهكم بهم بئس هذا الإِيمان الذي يأمركم بعبادة العجل {إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي إِن كنتم تزعمون الإِيمان فبئس هذا العمل والصنيع والمعنى: لستم بمؤمنين لأن الإِيمان لا يأمر بعبادة العجل {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً مِّن دُونِ الناس} أي قل لهم يا محمد إِن كانت الجنة لكم خاصة لا يشارككم في نعيمها أحد كما زعمتم {فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي اشتاقوا الموت الذي يوصلكم إِلى الجنة، لأن نعيم هذه الحياة لا يساوي شيئاً إِذا قيس بنعيم الآخرة. ومن أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إِليها قال تعالى رادّاً عليهم تلك الدعوة الكاذبة {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي لن يتمنوا الموت ما عاشوا بسبب ما اجترحوه من الذنوب والآثام {والله عَلِيمٌ بالظالمين} أي عالم بظلمهم وإِجرامهم وسيجازيهم على ذلك {