نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 127
ذاته بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجة لهم، صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام.
ولكنه ربط قلوب المسلمين بحقيقة أخرى بشأنه. هي حقيقة الإسلام. حقيقة أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون خالصاً لله، وليكون تراثاً للأمة المسلمة التي نشأت تلبية لدعوة إبراهيم ربه أن يبعث في بنيه رسولاً منهم بالإسلام، الذي كان عليه هو وبنوه وحفدته.. كما مر في درس: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ» ..
في الجزء الماضي.
ولقد كان الحديث عن المسجد الحرام: بنائه وعمارته، وما أحاط بهما من ملابسات والجدل مع أهل الكتاب والمشركين حول إبراهيم وبنيه ودينه وقبلته، وعهده ووصيته.. كان هذا الحديث الذي سلف في هذه السورة خير تمهيد للحديث عن تحويل قبلة المسلمين من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بعد هذه الفترة. فتحويل قبلة المسلمين إلى المسجد الحرام الذي بناه إبراهيم وإسماعيل، ودعوا عنده ذلك الدعاء الطويل..
يبدو في هذا السياق هو الاتجاه الطبيعي المنطقي مع وراثة المسلمين لدين إبراهيم وعهده مع ربه. فهو الاتجاه الحسي المتساوق مع الاتجاه الشعوري، الذي ينشئه ذلك التاريخ.
لقد عهد الله إلى إبراهيم أن يكون من المسلمين وعهد إبراهيم بهذا الإسلام إلى بنيه من بعده، كما عهد به يعقوب- وهو إسرائيل- ولقد علم إبراهيم أن وراثة عهد الله وفضله لا تكون للظالمين.
ولقد عهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل بإقامة قواعد البيت الحرام.. فهو تراث لهما، يرثه من يرثون عهد الله إليهما.. والأمة المسلمة هي الوارثة لعهد الله مع إبراهيم وإسماعيل ولفضل الله عليهما فطبيعي إذن ومنطقي أن ترث بيت الله في مكة، وأن تتخذ منه قبلة.
فإذا اتجه المسلمون فترة من الزمان إلى المسجد الأقصى، الذي يتجه إليه اليهود والنصارى، فقد كان هذا التوجه لحكمة خاصة هي التي أشار إليها السياق، وبيناها فيما سبق. فالآن وقد شاء الله أن يعهد بالوراثة إلى الأمة المسلمة، وقد أبى أهل الكتاب أن يفيئوا إلى دين أبيهم إبراهيم- وهو الإسلام- فيشاركوا في هذه الوراثة..
الآن يجيء تحويل القبلة في أوانه. تحويلها إلى بيت الله الأول الذي بناه إبراهيم. لتتميز للمسلمين كل خصائص الوراثة. حسيها وشعوريها، وراثة الدين، ووراثة القبلة، ووراثة الفضل من الله جميعاً.
إن الاختصاص والتميز ضروريان للجماعة المسلمة: الاختصاص والتميز في التصور والاعتقاد والاختصاص والتميز في القبلة والعبادة. وهذه كتلك لا بد من التميز فيها والاختصاص. وقد يكون الأمر واضحاً فيما يختص بالتصور والاعتقاد ولكنه قد لا يكون بهذه الدرجة من الوضوح فيما يختص بالقبلة وشعائر العبادة.. هنا تعرض التفاتة إلى قيمة أشكال العبادة.
إن الذي ينظر إلى هذه الأشكال مجردة عن ملابساتها، ومجردة كذلك عن طبيعة النفس البشرية وتأثراتها..
ربما يبدوله أن في الحرص على هذه الأشكال بذاتها شيئاً من التعصب الضيق، أو شيئاً من التعبد للشكليات! ولكن نظرة أرحب من هذه النظرة، وإدراكاً أعمق لطبيعة الفطرة، يكشفان عن حقيقة أخرى لها كل الاعتبار.
إن في النفس الإنسانية ميلاً فطرياً- ناشئاً من تكوين الإنسان ذاته من جسد ظاهر وروح مغيب- إلى اتخاذ أشكال ظاهرة للتعبير عن المشاعر المضمرة. فهذه المشاعر المضمرة لا تهدأ أولا تستقر حتى تتخذ لها شكلاً ظاهراً تدركه الحواس وبذلك يتم التعبير عنها. يتم في الحس كما تم في النفس. فتهدأ حينئذ وتستريح وتفرغ الشحنة الشعورية تفريغاً كاملاً وتحس بالتناسق بين الظاهر والباطن وتجد تلبية مريحة لجنوحها إلى الأسرار والمجاهيل وجنوحها إلى الظواهر والأشكال في ذات الأوان.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 127