نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 143
ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه.. والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» [1] ...
وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: «كأني أنظر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحكي نبياً من الأنبياء عليهم السلام، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» [2] .
وعن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم» [3] .
154- والآن والجماعة المسلمة في المدينة مقبلة على جهاد شاق لإقرار منهج الله في الأرض، ولأداء دورها المقسوم لها في قدر الله، ولتسلم الراية والسير بها في الطريق الشاق الطويل.. الآن يأخذ القرآن في تعبئتها تعبئة روحية، وفي تقويم تصورها لما يجري في أثناء هذا الجهاد من جذب ودفع، ومن تضحيات وآلام، وفي إعطائها الموازين الصحيحة التي تقدر بها القيم في هذه المعركة الطويلة تقديراً صحيحاً:
«وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ» ..
إن هنالك قتلى سيخرون شهداء في معركة الحق. شهداء في سبيل الله. قتلى أعزاء أحباء. قتلى كراماً أزكياء- فالذين يخرجون في سبيل الله، والذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق، هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس- هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتاً. إنهم أحياء. فلا يجوز أن يقال عنهم: أموات. لا يجوز أن يعتبروا أمواتاً في الحس والشعور، ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان.
إنهم أحياء بشهادة الله سبحانه. فهم لا بد أحياء.
إنهم قتلوا في ظاهر الأمر، وحسبما ترى العين. ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة لا تقرر هما هذه النظرة السطحية الظاهرة.. إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد. وسمة الموت الأولى هي السلبية والخمود والانقطاع.. وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله فاعلية مؤثرة، والفكرة التي من أجلها قتلوا ترتوي بدمائهم وتمتد، وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد. فهم ما يزالون عنصراً فعالاً دافعاً مؤثراً في تكييف الحياة وتوجيهها، وهذه هي صفة الحياة الأولى. فهم أحياء أولاً بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس.
ثم هم أحياء عند ربهم- إما بهذا الاعتبار، وإما باعتبار آخر لا ندري نحن كنهه. وحسبنا إخبار الله تعالى به: «أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ» .. لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود. ولكنهم أحياء.
أحياء. ومن ثم لا يغسلون كما يغسل الموتى، ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها. فالغسل تطهير للجسد الميت وهم أطهار بما فيهم من حياة. وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء.
أحياء. فلا يشق قتلهم على الأهل والأحباء والأصدقاء. أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحباء والأصدقاء.
أحياء فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم، ولا يتعاظمها الأمر، ولا يهولنا عظم الفداء. [1] أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي. [2] أخرجه الشيخان. [3] أخرجه الترمذي.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 143