نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 200
في جاهلية عمياء ما لم تهتد إلى هذا النهج المهتدي.. لا يدرك هذه الحقيقة إلا من يعيش في الجاهلية البشرية التي تعج بها الأرض في كل مكان، ثم يحيا بعد ذلك بالتصور الإسلامي الرفيع للحياة، ويدرك حقيقة المنهج الإسلامي الشامخة على كل ما حولها من مقاذر ومستنقعات وأوحال! وحين يطل الإنسان من قمة التصور الإسلامي والمنهج الإسلامي، على البشرية كلها في جميع تصوراتها، وجميع مناهجها، وجميع نظمها- بما في ذلك تصورات أكبر فلاسفتها قديماً وحديثاً، ومذاهب أكبر مفكريها قديماً وحديثاً- حين يطل الإنسان من تلك القمة الشامخة يدركه العجب من انشغال هذه البشرية بما هي فيه من عبث، ومن عنت، ومن شقوة، ومن ضآلة، ومن اضطراب لا يصنعه بنفسه عاقل يدعي- فيما يدعي- أنه لم يعد في حاجة إلى إله! أو لم يعد على الأقل- كما يزعم- في حاجة لاتباع شريعة إله ومنهج إله! فهذا هو الذي يذكر الله به المسلمين، وهو يمتن عليهم بنعمته الكبرى:
«وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ» ..
199- والحج هو مؤتمر المسلمين الجامع، الذي يتلاقون فيه مجردين من كل آصرة سوى آصرة الإسلام، متجردين من كل سمة إلا سمة الإسلام، عرايا من كل شيء إلا من ثوب غير مخيط يستر العورة، ولا يميز فرداً عن فرد، ولا قبيلة عن قبيلة، ولا جنساً عن جنس.. إن عقدة الإسلام هي وحدها العقدة، ونسب الإسلام هو وحده النسب، وصبغة الإسلام هي وحدها الصبغة. وقد كانت قريش في الجاهلية تسمي نفسها «الحمس» جمع أحمس، ويتخذون لأنفسهم امتيازات تفرقهم عن سائر العرب. ومن هذه الامتيازات أنهم لا يقفون مع سائر الناس في عرفات، ولا يفيضون- أي يرجعون- من حيث يفيض الناس. فجاءهم هذا الأمر ليردهم إلى المساواة التي أرادها الإسلام، وإلى الاندماج الذي يلغي هذه الفوارق المصطنعة بين الناس:
«ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..
قال البخاري: حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت: «كان قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وسائر العرب يقفون بعرفات. فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها. فذلك قوله: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ» ..
قفوا معهم حيث وقفوا، وانصرفوا معهم حيث انصرفوا.. إن الإسلام لا يعرف نسباً، ولا يعرف طبقة.
إن الناس كلهم أمة واحدة. سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. ولقد كلفهم الإسلام أن يتجردوا في الحج من كل ما يميزهم من الثياب، ليلتقوا في بيت الله إخوانا متساوين. فلا يتجردوا من الثياب ليتخايلوا بالأنساب.. ودعوا عنكم عصبية الجاهلية، وادخلوا في صبغة الإسلام.. واستغفروا الله..
استغفروه من تلك الكبرة الجاهلية. واستغفروه من كل ما مس الحج من مخالفات ولو يسيرة هجست في النفس، أو نطق بها اللسان. مما نهى عنه من الرفث والفسوق والجدال.
وهكذا يقيم الإسلام سلوك المسلمين في الحج، على أساس من التصور الذي هدى البشرية إليه. أساس المساواة، وأساس الأمة الواحدة التي لا تفرقها طبقة، ولا يفرقها جنس، ولا تفرقها لغة، ولا تفرقها سمة من سمات الأرض جميعاً.. وهكذا يردهم إلى استغفار الله من كل ما يخالف عن هذا التصور النظيف الرفيع..
200- «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 200