نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 288
المالك المستخلف في هذه الملكية. وشروط المالك المستخلف قد بينها لهم في شريعته فليس لهم أن يخرجوا عنها وإلا بطلت ملكيتهم الناشئة عن عهد الاستخلاف، ووقعت تصرفاتهم باطلة، ووجب رد هذه التصرفات من المؤمنين بالله في الأرض.. وهكذا نجد أثر التصور الإسلامي في التشريع الإسلامي، وفي واقع الحياة العملية التي تقوم عليه. وحين يقول الله في القرآن الكريم: «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» .. فإنه لا يقرر مجرد حقيقة تصورية اعتقادية إنما يضع قاعدة من قواعد الدستور للحياة البشرية ونوع الارتباطات التي تقوم فيها كذلك.
على أن مجرد استقرار هذه الحقيقة في الضمير.. مجرد شعور الإنسان بحقيقة المالك- سبحانه- لما في السماوات وما في الأرض.. مجرد تصور الإنسان لخلو يده هو من ملكية أي شيء مما يقال: إنه يملكه ورد هذه الملكية لصاحبها الذي له ما في السماوات وما في الأرض.. مجرد إحساسه بأن ما في يده عارية لأمد محدود، ثم يستردها صاحبها الذي أعارها له في الأجل المرسوم.. مجرد استحضار هذه الحقائق والمشاعر كفيل وحده بأن يطامن من حدة الشره والطمع، وحدة الشح والحرص، وحدة التكالب المسعور. وكفيل كذلك بأن يسكب في النفس القناعة والرضى بما يحصل من الرزق والسماحة والجود بالموجود وأن يفيض على القلب الطمأنينة والقرار في الوجدان والحرمان سواء فلا تذهب النفس حسرات على فائت أو ضائع ولا يتحرق القلب سعاراً على المرموق المطلوب! «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟» ..
وهذه صفة أخرى من صفات الله توضح مقام الألوهية ومقام العبودية.. فالعبيد جميعاً يقفون في حضرة الألوهية موقف العبودية لا يتعدونه ولا يتجاوزونه، يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع الذي لا يقدم بين يدي ربه ولا يجرؤ على الشفاعة عنده، إلا بعد أن يؤذن له، فيخضع للإذن ويشفع في حدوده.. وهم يتفاضلون فيما بينهم، ويتفاضلون في ميزان الله. ولكنهم يقفون عند الحد الذي لا يتجاوزه عبد..
إنه الإيحاء بالجلال والرهبة في ظل الألوهية الجليلة العلية. يزيد هذا الإيحاء عمقاً صيغة الاستفهام الاستنكارية التي توحي بأن هذا أمر لا يكون وأنه مستنكر أن يكون. فمن هو هذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟
وفي ظل هذه الحقيقة تبدو سائر التصورات المنحرفة للذين جاءوا من بعد الرسل فخلطوا بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، فزعموا لله- سبحانه- خليطاً يمازجه أو يشاركه بالبنوة أو بغيرها من الصور في أي شكل وفي أي تصور، أو زعموا له- سبحانه- انداداً يشفعون عنده فيستجيب لهم حتماً. أو زعموا له- سبحانه- من البشر خلفاء يستمدون سلطانهم من قرابتهم له.. في ظل هذه الحقيقة تبدو تلك التصورات كلها مستنكرة مستبعدة لا تخطر على الذهن ولا تجول في الخاطر، ولا تلوح بظلها في خيال! وهذه هي النصاعة التي يتميز بها التصور الإسلامي فلا تدع مجالاً لتلبيس أو وهم، أو اهتزاز في الرؤية! الألوهية ألوهية. والعبودية عبودية. ولا مجال لالتقاء طبيعتهما أدنى التقاء. والرب رب، والعبد عبد. ولا مجال لمشاركة في طبيعتهما ولا التقاء.
فأما صلة العبد بالرب، ورحمة الرب للعبد، والقربى والود والمدد.. فالإسلام يقررها ويسكبها في النفس سكباً ويملأ بها قلب المؤمن ويفيضها عليه فيضاً ويدعه يعيش في ظلالها الندية الحلوة. دون ما حاجة إلى خلط طبيعة الألوهية وطبيعة العبودية. ودون ما حاجة إلى الغبش والركام والزغللة والاضطراب الذي لا تتبين فيه صورة واحدة واضحة ولا ناصعة ولا محددة!
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 288