نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 394
وكذلك.. نجدنا أمام حادث غير عادي. يحمل مظهراً من مظاهر طلاقة المشيئة الإلهية، وعدم تقيدها بالمألوف للبشر، الذي يحسبه البشر قانوناً لا سبيل إلى إخلافه ومن ثم يشكون في كل حادث لا يجيء في حدود هذا القانون! فإذا لم يستطيعوا تكذيبه، لأنه واقع، صاغوا حوله الخرافات والأساطير! فها هو ذا «زَكَرِيَّا» الشيخ الكبير وزوجه العاقر التي لم تلد في صباها.. ها هو ذا تجيش في قلبه الرغبة الفطرية العميقة في الخلف- وهو يرى بين يديه مريم البنية الصالحة المرزوقة- فيتوجه إلى ربه يناجيه، ويطلب منه أن يهب له من لدنه ذرية طيبة:
«هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ. قالَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً. إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ» ..
فما الذي كان من هذا الدعاء الخاشع الحار المنيب؟
39- كانت الاستجابة التي لا تتقيد بسن، ولا تتقيد بمألوف الناس لأنها تنطلق من المشيئة المطلقة التي تفعل ما تريد:
«فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ- وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ- أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى، مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ. وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» ..
لقد استجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر، الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء ويملك الإجابة حين يشاء. وبشرت الملائكة زكريا بمولود ذكر، اسمه معروف قبل مولده «يحيى» وصفته معروفة كذلك: سيداً كريماً، وحصوراً يحصر نفسه عن الشهوات، ويملك زمام نزعاته من الانفلات. ومؤمناً مصدقاً بكلمة تأتيه من الله [1] . ونبياً صالحاً في موكب الصالحين.
لقد استجيبت الدعوة، ولم يحل دونها مألوف البشر الذي يحسبونه قانوناً. ثم يحسبون أن مشيئة الله- سبحانه- مقيدة بهذا القانون! وكل ما يراه الإنسان ويحسبه قانوناً لا يخرج عن أن يكون أمراً نسبياً- لا مطلقاً ولا نهائياً- فما يملك الإنسان وهو محدود العمر والمعرفة، وما يملك العقل وهو محكوم بطبيعة الإنسان هذه، أن يصل إلى قانون نهائي ولا أن يدرك حقيقة مطلقة.. فما أجدر الإنسان أن يتأدب في جناب الله.
وما أجدره أن يلتزم حدود طبيعته وحدود مجاله، فلا يخبط في التيه بلا دليل، وهو يتحدث عن الممكن والمستحيل، وهو يضع لمشيئة الله المطلقة إطاراً من تجاربه هو ومن مقرراته هو ومن علمه القليل! 40- ولقد كانت الاستجابة مفاجأة لزكريا نفسه- وهل زكريا إلا إنسان على كل حال- واشتاق أن يعرف من ربه كيف تقع هذه الخارقة بالقياس إلى مألوف البشر؟
«قالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ؟» ..
وجاءه الجواب.. جاءه في بساطة ويسر. يرد الأمر إلى نصابه. ويرده إلى حقيقته التي لا عسر في فهمها، ولا غرابة في كونها:
«قالَ: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» ..
كذلك! فالأمر مألوف مكرور معاد حين يرد إلى مشيئة الله وفعله الذي يتم دائماً على هذا النحو ولكن الناس لا يتفكرون في الطريقة، ولا يتدبرون الصنعة، ولا يستحضرون الحقيقة! [1] تذكر بعض التفاسير أن المقصود بتصديقه بكلمة من الله تصديقه بعيسى- عليه السلام- وليس هناك ما يحتم هذا الفهم.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 394