نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 397
لقد تأهلت مريم- إذن- بالتطهر والقنوت والعبادة لتلقي هذا الفضل، واستقبال هذا الحدث، وها هي ذي تتلقى- لأول مرة- التبليغ عن طريق الملائكة بالأمر الخطير:
«إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ» ..
إنها بشارة كاملة وإفصاح عن الأمر كله. بشارة بكلمة من الله اسمه المسيح عيسى بن مريم.. فالمسيح بدل من الكلمة في العبارة. وهو الكلمة في الحقيقة. فماذا وراء هذا التعبير؟
إن هذه وأمثالها، من أمور الغيب التي لا مجال لمعرفة كنهها على وجه التحديد.. ربما كانت من الذي عناه الله بقوله: «أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ... » إلخ.
ولكن الأمر أيسر من هذا إذا أردنا أن نفهم طبيعة هذه الحقيقة الفهم الذي يصل القلب بالله، وصنعته وقدرته، ومشيئته الطليقة:
لقد شاء الله أن يبدأ الحياة البشرية بخلق آدم من تراب- وسواء كان قد جبله مباشرة من التراب أو جبل السلالة الأولى التي انتهت إليه من تراب، فإن هذا لا يقدم ولا يؤخر في طبيعة السر الذي لا يعلمه إلا الله. سر الحياة التي لا بست أول مخلوق حي، أو لا بست آدم إن كان خلقه مباشرة من التراب الميت! وهذه كتلك في صنع الله. وليست واحدة منهما بأولى من الأخرى في الوجود والكينونة ... [1] .
من أين جاءت هذه الحياة؟ وكيف جاءت؟ إنها قطعاً شيء آخر غير التراب وغير سائر المواد الميتة في هذه الأرض.. شيء زائد. وشيء مغاير. وشيء ينشئ آثاراً وظواهر لا توجد أبداً في التراب ولا في مادة ميتة على الإطلاق..
هذا السر من أين جاء؟ إنه لا يكفي أننا لا نعلم لكي ننكر أو نهذر! كما يفعل الماديون في لجاجة صغيرة لا يحترمها عاقل فضلا عن عالم! نحن لا نعلم. وقد ذهبت سدى جميع المحاولات التي بذلناها- نحن البشر- بوسائلنا المادية لمعرفة مصدرها.
أو لإنشائها بأيدينا من الموات! نحن لا نعلم.. ولكن الله الذي وهب الحياة يعلم.. وهو يقول لنا: إنها نفخة من روحه. وإن الأمر قد تم بكلمة منه. «كُنْ. فَيَكُونُ» ..
ما هي هذه النفخة؟ وكيف تنفخ في الموات فينشأ فيه هذا السر اللطيف الخافي على الأفهام؟
ما هي؟ وكيف؟ هذا هو الذي لم يخلق العقل البشري لإدراكه، لأنه ليس من شأنه. إنه لم يوهب القدرة على إدراكه. إن معرفة ماهية الحياة وطريق النفخة لا يجديه شيئاً في وظيفته التي خلقه الله لها- وظيفة الخلافة في الأرض- إنه لن يخلق حياة من موات.. فما قيمة أن يعرف طبيعة الحياة، وماهية النفخة من روح الله، وكيفية اتصالها بآدم أو بأول سلم الحياة الذي سارت فيه السلالة الحية؟
والله- سبحانه- يقول: إن النفخة من روحه في آدم هي التي جعلت له هذا الامتياز والكرامة- حتى على [1] نحن نتكلم هنا جدلا ولا نناقش نظرية النشوء والارتقاء، فقد كادت تفقد ركائزها العلمية. وهي مجرد نظرية!
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 397