نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 46
«مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارا، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ» ..
إنهم لم يعرضوا عن الهدى ابتداء، ولم يصموا آذانهم عن السماع، وعيونهم عن الرؤية وقلوبهم عن الإدراك، كما صنع الذين كفروا. ولكنهم استحبوا العمى على الهدى بعد ما استوضحوا الأمر وتبينوه..
لقد استوقدوا النار، فلما أضاء لهم نورها لم ينتفعوا بها وهم طالبوها. عندئذ «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» الذي طلبوه ثم تركوه: «وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ» جزاء إعراضهم عن النور! 18- وإذا كانت الآذان والألسنة والعيون، لتلقي الأصداء والأضواء، والانتفاع بالهدى والنور، فهم قد عطلوا آذانهم فهم «صُمٌّ» وعطلوا ألسنتهم فهم «بُكْمٌ» وعطلوا عيونهم فهم «عُمْيٌ» .. فلا رجعة لهم إلى الحق، ولا أوبة لهم إلى الهدى. ولا هداية لهم إلى النور! 20، 19- ومثل آخر يصور حالهم ويرسم ما في نفوسهم من اضطراب وحيرة وقلق ومخافة:
«أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ. وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ. يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
إنه مشهد عجيب، حافل بالحركة، مشوب بالاضطراب. فيه تيه وضلال، وفيه هول ورعب، وفيه فزع وحيرة، وفيه أضواء وأصداء.. صيب من السماء هاطل غزير «فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ» .. «كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ» .. «وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا» .. أي وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون. وهم مفزعون: «يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ»
..
إن الحركة التي تغمر المشهد كله: من الصيب الهاطل، إلى الظلمات والرعد والبرق، إلى الحائرين المفزعين فيه، إلى الخطوات المروعة الوجلة، التي تقف عند ما يخيم الظلام.. إن هذه الحركة في المشهد لترسم- عن طريق التأثر الإيحائي- حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون.. بين لقائهم للمؤمنين، وعودتهم للشياطين. بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة. بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام.. فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ويجسم صورة شعورية.
وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس [1] .
21- وعند ما يتم استعراض الصور الثلاث يرتد السياق في السورة نداء للناس كافة، وأمرا للبشرية جمعاء، أن تختار الصورة الكريمة المستقيمة. الصورة النقية الخالصة. الصورة العاملة النافعة. الصورة المهتدية المفلحة..
صورة المتقين:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً، وَالسَّماءَ بِناءً، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ..
إنه النداء إلى الناس كلهم لعبادة ربهم الذي خلقهم والذين من قبلهم. ربهم الذي تفرذ بالخلق، فوجب أن يتفرد بالعبادة.. وللعبادة هدف لعلهم ينتهون إليه ويحققوه: [1] يراجع فصل: «التخييل الحسي والتجسيم» في كتاب «التصوير الفني في القرآن» «دار الشروق» .
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 46