نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 477
قوة، وبجانب الثقلة رفرفة، وبجانب النزوة الحيوانية أشواقاً ربانية.. فهو يعطف عليه في لحظة الضعف ليأخذ بيده إلى مراقي الصعود، ويربت عليه في لحظة العثرة ليحلق به إلى الأفق من جديد. ما دام يذكر الله ولا ينساه، ولا يصر على الخطيئة وهو يعلم أنها الخطيئة! والرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة» [1] والإسلام لا يدعو- بهذا- إلى الترخص، ولا يمجد العاثر الهابط، ولا يهتف له بجمال المستنقع! كما تهتف «الواقعية» ! إنما هو يقيل عثرة الضعف، ليستجيش في النفس الإنسانية الرجاء، كما يستجيش فيها الحياء! فالمغفرة من الله- ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ - تخجل ولا تطمع، وتثير الاستغفار ولا تثير الاستهتار.
فأما الذين يستهترون ويصرون، فهم هنالك خارج الأسوار، موصدة في وجوههم الأسوار! وهكذا يجمع الإسلام بين الهتاف للبشرية إلى الآفاق العلى، والرحمة بهذه البشرية التي يعلم طاقتها. ويفتح أمامها باب الرجاء أبداً، ويأخذ بيدها إلى أقصى طاقتها» .
... هؤلاء المتقون ما لهم؟
«أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها. وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» ..
فهم ليسوا سلبيين بالاستغفار من المعصية. كما أنهم ليسوا سلبيين بالإنفاق في السراء والضراء، وكظم الغيظ والعفو عن الناس.. إنما هم عاملون. «وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» .. المغفرة من ربهم، والجنة تجري من تحتها الأنهار بعد المغفرة وحب الله.. فهنالك عمل في أغوار النفس، وهنالك عمل في ظاهر الحياة. وكلاهما عمل، وكلاهما حركة، وكلاهما نماء.
وهنالك الصلة بين هذه السمات كلها وبين معركة الميدان التي يتعقبها السياق.. وكما أن للنظام الربوي- أو النظام التعاوني- أثره في حياة الجماعة المسلمة وعلاقته بالمعركة في الميدان، فكذلك لهذه السمات النفسية والجماعية أثرها الذي أشرنا إليه في مطلع الحديث.. فالانتصار على الشح، والانتصار على الغيظ، والانتصار على الخطيئة، والرجعة إلى الله وطلب مغفرته ورضاه.. كلها ضرورية للانتصار على الأعداء في المعركة. وهم إنما كانوا أعداء لأنهم يمثلون الشح والهوى والخطيئة والتبجح! وهم إنما كانوا أعداء لأنهم لا يُخضعون ذواتهم وشهواتهم ونظام حياتهم لله ومنهجه وشريعته. ففي هذا تكون العداوة، وفي هذا تكون المعركة، وفي هذا يكون الجهاد.
وليس هنالك أسباب أخرى يعادي فيها المسلم ويعارك ويجاهد. فهو إنما يعادي لله، ويعارك لله، ويجاهد لله! فالصلة وثيقة بين هذه التوجيهات كلها وبين استعراض المعركة في هذا السياق.. كما أن الصلة وثيقة بينها وبين الملابسات الخاصة التي صاحبت هذه المعركة. من مخالفة عن أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن طمع في الغنيمة نشأت عنه المخالفة. ومن اعتزاز بالذات والهوى نشأ عنه تخلف عبد الله ابن أبيّ ومن معه.
ومن ضعف بالذنب نشأ عنه تولي من تولى- كما سيرد في السياق- ومن غبش في التصور نشأ عنه عدم رد الأمور إلى الله، وسؤال بعضهم: «هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ» ؟ وقول بعضهم: «لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» .. [1] رواه أبو داود والترمذي والبزار في مسنده من حديث عثمان بن واقد.. وفي سنده صحابي مجهول ولكن ابن كثير في تفسيره صححه وقال: «حديث حسن» .
(2) يراجع بتوسع فصل: «سلام الضمير» في كتاب: «السلام العالمي والإسلام» .. «دار الشروق» .
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 477