نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 502
والخسائر لا تهم إذا كانت الحصيلة هي إنشاء الأمة المدربة المدركة المقدرة للتبعة. واختصار الأخطاء والعثرات والخسائر في حياة الأمة ليس فيها شيء من الكسب لها، إذا كانت نتيجته أن تظل هذه الأمة قاصرة كالطفل تحت الوصاية. إنها في هذه الحالة تتقي خسائر مادية وتحقق مكاسب مادية. ولكنها تخسر نفسها، وتخسر وجودها، وتخسر تربيتها، وتخسر تدريبها على الحياة الواقعية. كالطفل الذي يمنع من مزاولة المشي- مثلاً- لتوفير العثرات والخبطات، أو توفير الحذاء! كان الإسلام ينشئ أمة ويربيها، ويعدها للقيادة الراشدة. فلم يكن بد أن يحقق لهذه الأمة رشدها، ويرفع عنها الوصاية في حركات حياتها العملية الواقعية، كي تدرب عليها في حياة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وبإشرافه. ولو كان وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى، ويمنع تدريب الأمة عليها تدريباً عملياً واقعياً في أخطر الشؤون- كمعركة أحد التي قد تقرر مصير الأمة المسلمة نهائياً، وهي أمة ناشئة تحيط بها العداوات والأخطار من كل جانب- ويحل للقيادة أن تستقل بالأمر وله كل هذه الخطورة- لو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشؤون، لكان وجود محمد- صلى الله عليه وسلم- ومعه الوحي من الله سبحانه وتعالى- كافياً لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى! - وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ضلل الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمية. ولكن وجود محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومعه الوحي الإلهي ووقوع تلك الأحداث، ووجود تلك الملابسات، لم يلغ هذا الحق. لأن الله- سبحانه- يعلم أن لا بد من مزاولته في أخطر الشؤون، ومهما تكن النتائج، ومهما تكن الخسائر، ومهما يكن انقسام الصف، ومهما تكن التضحيات المريرة، ومهما تكن الأخطار المحيطة.. لأن هذه كلها جزئيات لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة، المدربة بالفعل على الحياة المدركة لتبعات الرأي والعمل، الواعية لنتائج الرأي والعمل.. ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي، في هذا الوقت بالذات:
«فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» ..
ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله وليثبت هذا القرار في حياة الأمة المسلمة أياً كانت الأخطار التي تقع في أثناء التطبيق وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة، كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة، ولو كان هو انقسام الصف، كما وقع في «أحد» والعدو على الأبواب.. لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ. ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق! على أن الصورة الحقيقية للنظام الإسلامي لا تكمل حتى نمضي مع بقية الآية فنرى أن الشورى لا تنتهي أبداً إلى الأرجحة والتعويق، ولا تغني كذلك عن التوكل على الله في نهاية المطاف:
«فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» ..
إن مهمة الشورى هي تقليب أوجه الرأي، واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة، فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد، انتهى دور الشورى وجاء دور التنفيذ.. التنفيذ في عزم وحسم، وفي توكل على الله، يصل الأمر بقدر الله، ويدعه لمشيئته تصوغ العواقب كما تشاء.
وكما ألقى النبي- صلى الله عليه وسلم- درسه النبوي الرباني، وهو يعلم الأمة الشورى، ويعلمها إبداء، الرأي، واحتمال تبعته بتنفيذه، في أخطر الشؤون وأكبرها.. كذلك ألقى عليها درسه الثاني في المضاء بعد الشورى، وفي التوكل على الله، وإسلام النفس لقدره- على علم بمجراه واتجاهه- فأمضى الأمر في الخروج،
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 502