نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 556
التي يخوضها في الميدان الآخر، مع الأعداء الراصدين له والأعداء المتميعين فيه! وحين ندقق النظر في الرواسب التي حملها المجتمع المسلم من المجتمع الجاهلي الذي منه جاء، والتي تعالج هذه السورة جوانب منها- كما تعالج سور كثيرة جوانب أخرى- قد ينالنا الدهش لعمق هذه الرواسب، حتى لتظل تغالب طوال هذه الفترة التي رجحنا أن آيات السورة كانت تتنزل فيها.. ومن العجب أن تظل لهذه الرواسب صلابتها حتى ذلك الوقت المتأخر.. ثم ينالنا الدهش كذلك للنقلة البعيدة السامقة الرفيعة التي انتهى إليها هذا المنهج العجيب الفريد، بالجماعة المسلمة. وقد التقطها من ذلك السفح الهابط، الذي تمثله تلك الرواسب، فارتقى بها في ذلك المرتقى الصاعد إلى تلك القمة السامقة.. القمة التي لم ترتق إليها البشرية قط، إلا على حداء ذلك المنهج العجيب الفريد. المنهج الذي يملك وحده أن يلتقط الكينونة البشرية من ذلك السفح، فيرتقي بها إلى تلك القمة، رويدا رويدا، في يسر ورفق، وفي ثبات وصبر، وفي خطو متناسق موزون! والذي يدقق النظر في هذه الظاهرة الفريدة في تاريخ البشرية، يتجلى له جانب من حكمة الله في اختيار «الأميين» في الجزيرة العربية، في ذلك الحين، لهذه الرسالة العظيمة.. حيث يمثلون سفح الجاهلية الكاملة، بكل مقوماتها. الاعتقادية والتصورية، والعقلية والفكرية، والأخلاقية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، ليعرف فيهم أثر هذا المنهج، وليتبين فيهم كيف تتم المعجزة الخارقة، التي لا يملك أن يأتي بها منهج آخر، في كل ما عرفت الأرض من مناهج، وليرتسم فيهم خط هذا المنهج، بكل مراحله- من السفح إلى القمة- وبكل ظواهره، وبكل تجاربه، ولترى البشرية- في عمرها كله- أين تجد المنهج الذي يأخذ بيدها إلى القمة السامقة، أيا كان موقفها في المرتقى الصاعد. سواء كانت في درجة من درجاته، أم كانت في سفحه الذي التقط منه «الأميين» ! إن هذا المنهج ثابت في أصوله ومقوماته، لأنه يتعامل مع «الإنسان» . وللإنسان كينونة ثابتة، فهو لا يتبدل منها كينونة أخرى. وكل التحورات والتطورات التي تلابس حياته لا تغير من طبيعته، ولا تبدل من كينونته، ولا تحوّله خلقا آخر. إنما هي تغيرات وتطورات سطحية، كالأمواج في الخضم، لا تغير من طبيعته المائية، بل لا تؤثر في تياراته التحتية الدائمة، المحكومة بعوامل طبيعية ثابتة! ومن ثم تواجه النصوص القرآنية الثابتة، تلك الكينونة البشرية الثابتة. ولأنها من صنع المصدر الذي صنع الإنسان، فإنها تواجه حياته بظروفها المتغيرة، وأطوارها المتجددة، بنفس المرونة التي يواجه بها «الإنسان» ظروف الحياة المتغيرة، وأطوارها المتجددة، وهو محافظ على مقوماته الأساسية.. مقوّمات الإنسان..
وفي «الإنسان» هذا الاستعداد، وهذه المرونة، وإلا ما استطاع أن يواجه ظروف الحياة وأطوارها، وهي ليست ثابتة من حوله. وفي المنهج الرباني الموضوع لهذا الإنسان، ذات الخصائص، بحكم أنه صادر من المصدر الذي صدر منه الإنسان، ومودع خصائصه ذاتها، ومعدّ للعمل معه إلى آخر الزمان.
وهكذا يستطيع ذلك المنهج، وتستطيع هذه النصوص، أن تلتقط الفرد الإنساني، وأن تلتقط المجموعة الإنسانية، من أي مستوى، ومن أية درجة من درجات المرتقى الصاعد، فينتهي به وبها إلى القمة السامقة..
إنه لا يرده ولا يردها أبدا إلى الوراء، ولا يهبط به أو بها أبدا إلى درجة أسفل في المرتقى. كما أنه لا يضيق به ولا بها، ولا يعجز عن رفعه ورفعها، أيا كان مكانه أو مكانها من السفح السحيق! المجتمع البدائي المتخلف كالمجتمع العربي في الجاهلية القديمة، والمجتمع الصناعي المتحضر، كالمجتمع الأوربي والأمريكي في الجاهلية الحديثة.. كلاهما يجد في المنهج الرباني والنصوص القرآنية مكانه، ويجد من
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 556