نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 75
وأنا أرجح هذا التأويل الذي استبعده بعض المفسرين، أرجحه بسبب ما أعقبه في السياق من قوله تعالى:
«وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ» ..
فإن ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وعودتهم بغضب الله، لم يكن- من الناحية التاريخية- في هذه المرحلة من تاريخهم إنما كان فيما بعد، بعد وقوع ما ذكرته الآية في ختامها:
«ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» .
وقد وقع هذا منهم متأخراً بعد عهد موسى بأجيال. إنما عجل السياق بذكر الذلة والمسكنة والغضب هنا لمناسبته لموقفهم من طلب العدس والبصل والثوم والقثاء! فناسب أن يكون قول موسى لهم، «اهْبِطُوا مِصْراً» هو تذكير لهم بالذل في مصر، وبالنجاة منه، ثم هفوة نفوسهم للمطاعم التي ألفوها في دار الذل والهوان! 62- ولم يشهد تاريخ أمة ما شهده تاريخ إسرائيل من قسوة وجحود واعتداء وتنكر للهداة. فقد قتلوا وذبحوا ونشروا بالمناشير عدداً من أنبيائهم- وهي أشنع فعلة تصدر من أمة مع دعاة الحق المخلصين- وقد كفروا أشنع الكفر، واعتدوا أشنع الاعتداء، وعصوا أبشع المعصية. وكان لهم في كل ميدان من هذه الميادين أفاعيل ليست مثلها أفاعيل! ومع هذا كله فقد كانت لهم دعاوى عريضة عجيبة. كانوا دائما يدعون أنهم هم وحدهم المهتدون. وهم وحدهم شعب الله المختار، وهم وحدهم الذين ينالهم ثواب الله وأن فضل الله لهم وحدهم دون شريك.. وهنا يكذب القرآن هذه الدعوى العريضة، ويقرر قاعدة من قواعده الكلية، التي تتخلل القصص القرآني، أو تسبقه أو تتلوه. يقرر قاعدة وحدة الإيمان.. ووحدة العقيدة، متى انتهت إلى إسلام النفس لله، والإيمان به إيماناً ينبثق منه العمل الصالح. وإن فضل الله ليس حجراً محجوراً على عصبية خاصة، إنما هو للمؤمنين أجمعين، في كل زمان وفي كل مكان، كل بحسب دينه الذي كان عليه، حتى تجيء الرسالة التالية بالدين الذي يجب أن يصير المؤمنون إليه:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالَّذِينَ هادُوا، وَالنَّصارى، وَالصَّابِئِينَ- مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً- فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» ..
والذين آمنوا يعني بهم المسلمين. والذين هادوا هم اليهود- إما بمعنى عادوا إلى الله، وإما بمعنى أنهم أولاد يهوذا- والنصارى هم اتباع عيسى- عليه السلام- والصابئون: الأرجح أنهم تلك الطائفة من مشركي العرب قبل البعثة، الذين ساورهم الشك فيما كان عليه قومهم من عبادة الأصنام، فبحثوا لأنفسهم عن عقيدة يرتضونها، فاهتدوا إلى التوحيد، وقالوا: إنهم يتعبدون على الحنيفية الأولى، ملة إبراهيم، واعتزلوا عبادة قومهم دون أن تكون لهم دعوة فيهم. فقال عنهم المشركون: إنهم صبأوا- أي مالوا عن دين آبائهم- كما كانوا يقولون عن المسلمين بعد ذلك. ومن ثم سموا الصابئة. وهذا القول أرجح من القول بأنهم عبدة النجوم كما جاء في بعض التفاسير.
والآية تقرر أن من آمن بالله واليوم الآخر من هؤلاء جميعاً وعمل صالحاً، فإن لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فالعبرة بحقيقة العقيدة، لا بعصبية جنس أو قوم.. وذلك طبعاً قبل البعثة
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 75