ومحاورتهم، ثم رجعوا بطريق الاعتذار والسفسطة الى الناصح فشاغبوا وقالوا: "بيننا فرق لانقاس عليهم إذ هم فقراء مضطرون مجبورون فشدتهم في الديانة وتصوّفهم بالاضطرار. اما نحن فأهل عزة وجاه" فبحكم الغرور يحيلون الناصح على انصافه. وبحكم الخداع والحيلة يتكلمون بكلام ذي لسانين، أي ايها المرشد! لاتظننا سفهاء ولانكون كالسفهاء في نظركم، بل نفعل كما يفعل المؤمنون الخلص. مع ان مرادهم باطناً: لانكون كهؤلاء المؤمنين الفقراء؛ اذ لا اعتداد بهم في نظرنا. ففي هذا اللفظ رمز خفيّ الى فسادهم وافسادهم وغرورهم ونفاقهم..
(كما آمن السفهاء) أي الذين تظنونهم الناس الكاملين هم في نظرنا اذلاء فقراء مجبورون مع كثرتهم، كلٌ منهم سفيهُ قوم. ففي دعواهم الفرق في القياس اشارة الى ان الاسلامية كهف المساكين وملجأ الفقراء وحامية الحق وحافظة الحقيقة ومانعة الغرور وقامعة التكبّر، وما مقياس الكمال والمجد الاّ هي.. وأيضاً في الفرق اشارة الى ان سبب النفاق في الأغلب هو الغرض والغرور والتكبر كما يفسره: (وما نَريكَ اتَّبَعَكَ اِلاَّ الَّذيِنَ هُمْ اَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) [1]. وأيضاً في الفرق اشارة خفية الى ان الاسلامية لاتصير وسيلة التحكم والتغلب في أيدي أهل الدنيا والجاه؛ بل انما هي واسطة لإِحقاق الحق في أيادي أهل الفقر والضرورة خلاف سائر الأديان. ويشهد على هذه الحقيقة التأريخُ.
أما جملة (ألا انهم هم السفهاء) فاعلم! ان القرآن الكريم انما أكثر من التشديد والتشنيع على النفاق لأجل ان أكثر بليات العالم الاسلامي من أنواع النفاق.. ثم ان لفظ (ألا) للتنبيه وتشهير سفاهتهم على رؤوس الأشهاد، ولاستشهاد فكر العموم على سفاهتهم. وأصل معنى (ألا) ألا تعلمون انهم سفهاء؟ أي: فاعلموا.. ثم ان "انّ" مرآة الحقيقة ووسيلة اليها كأنه يقول: راجعوا الحقيقة لتعلموا ان سفسطتهم الظاهرية لا أصل لها. ثم لفظ "هم" للحصر لرد تبرئة أنفسهم، ودفع تسفيههم للمؤمنين الذي اشاروا اليه بـ (كما آمن السفهاء) أي ان السفيه مَن ترك الآخرة بالغرور والغرض واللذة الفانية دون من أشترى الباقي بترك الهوسات [2] الفانية. ثم ان [1] سورة هود: 27. [2] الهوس: طرف من الجنون وخفة العقل والمقصود هنا الاغراض النفسية وامانيها.