وان ذكر (من السماء) مع بداهة ان المطر لا يجئ الاّ من جهتها ايماء بالتخصيص الى التعميم وبالتقييد الى الاطلاق نظير التقييد في (ومَا مِنْ دابّةٍ في الأرضِ ولا طائر يطير بجناحيه) (1) أي مطبق آخذ بآفاق السماء. وما استدل بعض المفسرين بلفظ من السماء هنا وفي آية (ويُنَزِّلُ من السماءِ من جبالٍ فيها مِن بَرَدٍ) (2) على نزول المطر من جرم السماء حتى تخيل "بعض" وجود بحر تحت السماء، فنظرُ البلاغة لايرى عليه سكةَ الحقيقة. بل المعنى: من جهة السماء. والتقييد لما عرفت. وقد قيل السماء ما علاك، فالسحاب كالهواء سماء.
وتحقيق المقام: هو انك ان نظرت الى القدرة تتساوى الجهاتُ أي يمكن النزول من أية جهة كانت. وان نظرت الى الحكمة الالهية المؤسِّسة للنظام الأحسن في الأشياء المستلزِم لمحافظة الموازنة العمومية المرجِّحة لأقرب الوسائل فالمطر انما هو من تكاثف البخار المائي المنتشر في كرة الهواء التي احد أجزائها العشرة ذلك البخار المائيّ المنتشر في أعماقها.
وتوضيحه: ان ذراته اذا امرتها الارادة الالهية، يتمثل كلٌ، ويتسللن من الأطراف ومن كل فج عميق. فيتحزَّبن سحاباً هامراً. ثم بارادة آمرها يشتدّ تكاثفُ بعضٍ فتصير قطراتٍ تأخذها بأيديهم الملائكةُ الذين هم ممثلو القوانين ومعكس النظامات لئلا يزاحم ويصادم بعضٌ بعضاً فيضعونها على الأرض. ولأجل محافظة الموازنة في الجوّ لابد من بدلِ ما يتحلل بالتقطر، فيُبخَّر البحر والأرض فيملأ منازلها. وأما تخيل بعضٍ وجود بحر سماويّ فمَحْمله انه تصور المجاز حقيقةً؛ اذ لاراءة خضرة الجوّ لون البحر، ولاحتواء الجو على ماء أكثر من البحر المحيط ما استبعد تشبيهه بالبحر.
أما (وينزّل من السماء من جبال فيها من برد) فاعلم! ان الجمود على الظاهر مع التوقد في استعارتها جمود بارد وخمود ظاهر. اذ كما تضمن (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ) (3) استعارة بديعة؛ كذلك يحتوي (مِنْ جِبَالٍ فيها مِنْ بَرَدٍ) على استعارة بديعة عجيبة مستملحة. فكما ان ظروف الجنة لم تكن من الزجاجة ولامن الفضة بل في شفافية الزجاج وبياض الفضة ومن حيث ان الزجاجة لاتكون من الفضة لتخالف
(1) سورة الانعام: 38.
(2) سورة النور: 43.
(3) سورة الانسان: 16.