والكذب بينها. ألا ترى ان الشخص المشتهر بالشجاعة فقط لا يتنزل للكذب الاّ بعسر؟ فكيف بالمجموع؟ فثبت ان ذاته عليه السلام كالشمس دليل لنفسه..
وأيضاً اذا تأملت في حاله عليه السلام من الأربع الى اربعين - مع ان من شأن الشبابية وتوقد الحرارة الغريزية ان تظهر ما يخفى وتلقي الى الظاهر ما استتر في الطبيعة من الحيل - تراه عليه السلام قد تدرج في سنينه وعاشر بكمال استقامة ونهاية متانة وغاية عفة واطراد وانتظام. ما اومأ حالٌ من أحواله الى حيلة، لاسيما في مقابلة المعاندين الأذكياء. وبينما تراه عليه السلام كذلك اذ تنظر اليه وهو على رأس اربعين سنة - الذي من شأنه جعل الحالات مَلَكة والعادات طبيعة ثابتة لا تخالف - قد تكشّف عليه السلام عن شخص خارق قد اوقع في العالم انقلاباً عظيماً عجيبا. فما هو الاّ من الله.
المسألة الرابعة:
اعلم! ان صحيفة الماضي المشتملة على قَصَص الأنبياء المذكورة على لسانه عليه السلام في القرآن الكريم برهان على نبوّته بملاحظة أربع نكت.
إحداها: إن من يأخذ أساسات فنٍ ويعرف العقد الحياتية فيه ويحسن استعمالها في مواضعها ثم يبني مدّعاه عليها؛ يدل ذلك على مهارته وحذاقته في ذلك الفن.
النكتة الثانية: هي انك ان كنت عارفا بطبيعة البشر لا ترى أحداً يتجاسر وبلا تردد وبلا مبالاة بسهولة على مخالفةٍ وكذبٍ ولو صغيراً.. في قوم ولو قليلين.. في دعوى ولو حقيرة.. بحيثية ولو ضعيفة. فكيف بمن له حيثية في غاية العظمة.. وفي دعوى في غاية الجلالة.. في قوم في غاية الكثرة.. في مقابلة عناد في غاية الشدة مع انه اميّ لم يقرأ.. يبحث عن أمور لا يستقل فيها العقل ويظهرها بكمال الجدية، ويعلنها على رؤوس الأشهاد. أفلا يدل هذا على صدقه وانه ليس منه بل من الله؟
الثالثة: هي ان كثيراً من العلوم المتعارفة عند المدَنيين - بِتعليم العادات والأحوال وتلقين الوقوعات والأفعال - مجهولة نظريةٌ عند البدويين. فبناء علىه لابد لمن يحاكم ويتحرى حال البدويين - لا سيما في القرون الخالية - ان يفرض نفسه في تلك البادية.