الطريق الأول: هو ان قوم العرب كانوا بدويين امّيين ولهم محيط عجيب يناسبهم.. وقد انتبهوا بالانقلابات العظيمة في العالم.. وكان ديوانهم الشعر وعلمهم البلاغة، ومفاخرتهم بالفصاحة في أمثال سوق عكاظ.. وكانوا أذكى الأقوام.. وكانوا أحوج الناس لجولان الذهن اذاً.. ولقد كان لأذهانهم فصل الربيع، فطلع عليهم القرآن الكريم بحشمة بلاغته فمحا وبهر تماثيل بلاغتهم وهي "المعلقات السبعة" المكتوبة بذوب الذهب على جدار الكعبة. مع ان اولئك الفصحاء البلغاء - الذين هم أمراء البلاغة وحكام الفصاحة - ما عارضوا القرآن وما حاروا ببنت شفة، مع شدة تحدِّي النبيّ عليه السلام لهم، ولومه لهم، وتقريعه اياهم، وتسفيهه لأحلامهم، وتحريكه لاعصابهم في زمان طويل، وترذيله لهم مع ان من بلغائهم من يحكّ بيافوخه [1] كتف السماء، ومنهم من يناطح السِّماكَيْن [2] بكبره فلولا انهم ارادوا وجربوا أنفسهم فأحسوا بالعجز، لما سكتوا عن المعارضة البتة؛ فعجزهم دليل اعجاز القرآن.
والطريق الثاني: هو ان اهل العلم والتدقيق واهل التنقيد الذين يعرفون خواص الكلام ومزاياه ولطائفه تأملوا في القرآن سورةً سورةً، وعشراً عشراً، وآيةً آيةً، وكلمةً كلمةً؛ فشهدوا بانه جامع لمزايا ولطائف وحقائق لاتجتمع في كلام بشر. فهؤلاء الشهداء الوف الوف. والذي يدل على صدق شهادتهم هو ان القرآن أوقع في العالم الانساني تحوّلاً عظيما، واسس ديانة واسعة، وادام على وجه الزمان ما اشتمل عليه من العلوم. فكلما شاب الزمانُ شبّ، وكلما تكرر حلا. فاذاً (ان هو الا وحي يوحى) [3].
والطريق الثالث: [4] كما حققه الجاحظ: هو ان الفصحاء والبلغاء مع شدة احتياجهم الى إبطال دعوى النبيّ عليه السلام، ومع شدة حقدهم وعنادهم له تركوا المعارضة بالحروف الطريقَ الأسلمَ والأقربَ والأسهلَ، والتجأوا الى المقارعة بالسيوف الطريقِ الأصعبِ الأطولِ المشكوكة العاقبة الكثيرة المخاطر؛ وهم بدرجة من الذكاء [1] اليافوخ: الموضع الذى يتحرك من رأس الطفل، والمقصود هنا: من علا قدره وتكبّر من البلغاء. [2] السماكان: نجمان نيّران. [3] سورة النجم: 4 [4] هذه الطريق حجة قاطعة - المؤلف.