كلٌ بأمرين معا بالذات، ويعرفون أن مقياس الهمة موضوع المشغلة والاهتمام، ويرون ان القيمة والعظمة بنسبة الهمة حتى انهم لا يسندون أمراً حقيراً نزيلاً الى شخص عال جليل؛ ظناً منهم انه لايتنزل للاشتغال بمثله ولايسع ذلك الأمر الحقير همته العظيمة، ينظرون بهذا النظر المشط الى الواجب تعالى ويقولون: كيف يتنزل بعظمته وجلاله للتكلم مع البشر بمثل محاورة الانسان وللبحث عن هذه الأمور الجزئية لاسيما هذه الأشياء المحقّرة؟ أفلا يعقل هؤلاء السفهاء ان ارادة الله تعالى وعلمه وقدرته كلية عمومية شاملة محيطة وليس مقياس عظمته تعالى الاّ مجموع آثاره، وما ميزان تجليه الاّ كافة كلماته التي لو كان البحر مداداً لها مانفدت. مثلاً (ولله المثل الأعلى) اذا القت الشمس - بعد فرض كونها مختارة عاقلة - ضياءها على ذرّة ملوّثة، أيُقال لها كيف تنزلت بعظمتها للاشتغال والاهتمام بمثل هذه الذرة؟
نعم! ان الله تعالى كما خلق العالم واتقنه صنعاً واهتم به؛ كذلك خلق الجوهرَ الفردَ وأتقن صنعه. ففي نظر القدرة الجواهر الفردة كالنجوم السيارة، لأن قدرته تعالى وعلمه وارادته وكلامه لازمة للذات، وذاتية، فليست متجددة ولا قابلة للزيادة والنقصان ولا متغيرة حتى يتداخل فيها المراتب؛ اذ العجز ضدٌ لها لا يمكن تداخله بينها. فلا فرق بين الذرة والشمس. اذ الممكنُ بتساوي طرفَيه كالميزان ذي الكفتين، لا فرق في صرف القوة التي ترفع كفة وتضع أخرى بين ان يكون في الكفتين شمسان أو ذرتان، وهكذا نسبة المقدورات بالنسبة الى القدرة الذاتية اللازمة. وأما بالنسبة الى قوة الممكنات العارضة المتغيرة المتداخل بينها العجز فلا موازنة.
والحاصل: ان الذرات والأمور الخسيسة لما كانت مخلوقة له تعالى كانت معلومة له بالضرورة، فلا مُشاحّة بالبداهة أن يبحث عنها. وعلى هذا السر قال (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [1] فكيف لا يبحث عنها ولا يتكلم بها مَنْ عَلِم وهو العزيز الحكيم.
وثانية المغالطات: هي انهم يزعمون انهم يرون في اسلوب القرآن خلف المتكلم تمثال انسان، بدليل البحث عن هذه الأشياء الحقيرة والأمور العادية كأسلوب محاورة البشر. أفلا يتذكر هؤلاء المتجاهلون ان الكلام كما ينظر الى متكلمه بجهة؛ كذلك [1] سورة الملك: 14.