طريق المشاورة قائلا (اني جاعل في الأرض خليفة) - توجه ذهن السامع بسرّ المقاولة الى ما "قالوا"؟ وبسرّ الاستفسار عن حكمته مع التعجب الى (أتجعل فيها) ؟ وبسر استخلافهم عن الجن المفسدين مع توديع القوة الغضبية والشهوية فيهم أيضا الى (من يفسد فيها) بتجاوز القوة الثانية (ويسفك الدماء) بتجاوز القوة الأولى. ثم بعد تمام السؤال والاستفسار والتعجب ينتظر ذهن السامع لجوابه تعالى. فقال: (قال اني اعلم مالا تعلمون) أي فالأشياء ليست منحصرة في معلوماتكم. فعدم علمكم ليس امارة على العدم، واني حكيم، لي فيهم حكمة يغتفر في جنبها فسادهم وسفكهم.
أما نظم هيئات جملة جملة، فاعلم! ان الواو في (واذ قال ربك للملئكة اني جاعل في الأرض خليفة) وكذا في (واذ قال ربك للملئكة اني خالق بشراً من صلصال) [1] في آية أخرى بسر المناسبة العطفية اشارة الى "اذ واذ" كما مر. وكذا - بسر ان الوحي يتضمن "ذَكِّرهُمْ بِذَلِكَ" اشارة الى "واذكر لهم اذ" الخ..
وان (اذ) المفيد للزمان الماضي لتسيير الأذهان في الأزمنة المتسلسلة الماضوية ورفع وجلب واحضار لها الى ذلك الزمان لتنظره فتجتني ما وقع فيه.. وان (ربك) اشارة الى الحجة على الملائكة أي ربّاك وكمّلك وجعلك مرشداً للبشر لإزالة فسادهم أي "انت الحسنة الكبرى التي ترجحت وغطت على تلك المفاسد".. وان (للملئكة) اشارة في هذه المقاولة الكائنة على صورة المشاورة الى ان لسكان السموات أعني الملائكة مزيد ارتباط وعلاقة وزيادة مناسبة مع سكان الأرض أعني البشر. فان من اولئك موُكلين وحَفَظة وكَتَبَة على هؤلاء فحقّهم الاهتمام بشأنهم. وان "ان" بناء على كونها لرد التردد المستفاد من "أتجعل" اشارة الى عظمة المسألة وأهميتها. وان ياء المتكلم وحده هنا مع "نا" للمتكلم مع الغير في "قلنا" في الآيات الآتية اشارة الى ان لا واسطة في ايجاده وخلقه كما توجد في خطابه وكلامه. ومما يدل على هذه النكت آية (انا انزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما اريك الله) [2] فقال "انزلنا" بنون العظمة لوجود الواسطة في الوحي وقال "أريك الله" [1] سورة الحجر: 28 [2] سورة النساء: 105