ومنها: ان المنافق في الأغلب يكون من أهل الكتاب ومن أهل الجربزة الوهمية فيكون حيّالا دسّاساً ذا ذكاء شيطانيّ، فالاطناب في حقه أعرق في البلاغة.
أما تحليل كلمات هذه الآية، فاعلم! ان (مِن الناس) خبر مقدم لـ (مَن) على وجه.
ان قلت: كون المنافق انسانا بديهيٌّ....؟
قيل لك: اذا كان الحكم بديهياً يكون الغرض واحداً من لوازمه وهنا هو التعجيب. كأنه يقول كون المنافق الرذيل انساناً عجيب؛ اذ الانسان مكرّم، ليس من شأنه ان يتنزل الى هذه الدركة من الخسة.
ان قلت: فَلِمَ قدّم؟
قيل لك: من شأن انشاء التعجب الصدارة وليتمركز النظر على صفة المبتدأ التي هي مناط الغرض وإلا لانتظر ومرّ الى الخبر.
ثم ان عنوان (الناس) يترشح منه لطائف:
منها: انه لم يفضحهم بالتعيين، بل سترهم تحت عنوان "الناس" إيماءً الى ان سترهم وعدم كشف الحجاب عن وجوههم القبيحة أنسب بسياسة النبيّ عليه السلام؛ اذ لو فضحهم بالتشخيص لتوسوس المؤمنون؛ اذ لايُؤْمَن من دسائس النفس. والوسوسة تنجر الى الخوف والخوف الى الرياء والرياء الى النفاق.. ولأنه لو شنّعهم بالتعيين لقيل ان النبي عليهِ السلام متردد لايثق باتباعه.. ولان بعضا من الفساد لو بقي تحت الحجاب لانطفأ شيئاً فشيئاً واجتهد صاحبُه في اخفائه ولو رُفع الحجاب - فبناءً على ما قيل "اِذا لمْ تسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ" [1] - لَيقول فليكن ما كان، ويأخذ في النشر ولا يبالي.
ومنها: ان التعبير بـ (الناس) يشير الى انه مع قطع النظر عن سائر الصفات المنافية للنفاق فأعمّ الصفات أعني: الانسانية أيضاً منافية له؛ اذ الانسان مكرم ليس من شأنه هذه الرَذالة. [1] هذا المثل اصله حديث نبوى رواه البخارى عن ابى مسعود عقبة بن عمرو الانصارى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان مما ادرك الناسُ من كلام النبوة الاولى: اذا لم تستح فاصنع ما شئت) .