فما هو إلا أن جاء القرآن.. وإذا الأسواق قد انفضت، إلا منه، وإذا الأندية قد صَفِرت، إلا عنه، فما قدر أحد منهم أن يُباريَه أو يجاريَه، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة، أو تقديم واحدة وتأخير أخرى؛ ذلك على أنه لم يسد عليهم باب العارضة بل فتحه على مصراعيه، بل دعاهم إليه أفرادًا أو جماعات. بل تحداهم وكرر عليهم ذلك التحدي في صور شتى، متهكمًا بهم متنزلًا معهم إلى الأخف فالأخف: فدعاهم أول مرة أن يجبئوا بمثله، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله، ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله، ثم بسورة واحدة من مثله[1]، وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا، ثم رماهم والعالم كله بالعجز في غير مواربة؛ فقال: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [2] وقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [3]، فانظر أي إلهاب، وأي استفزاز! لقد أجهز عليهم بالحكم البات المؤبد في قوله {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ثم هددهم بالنار، ثم سواهم بالأحجار، فلعمري لو كان فيهم لسان يتحرك لما صمتوا عن منافسته وهم الأعداء الألداء، وأباة الضيم الاعزاء، وقد أصاب منهم موضع عزتهم وفخارهم، ولكنهم لم يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته، ولا سُلَّمًا يصعدون به إلى مزاحمته، بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ، فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا ... حتى إذا استيأسوا من قدرتهم واستيقنوا عجزهم ما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن [1] انظر كيف تنزَّل معهم في هذه المرتبة من طلب المماثل إلى طلب شيء مما يماثل كأنه يقول: لا أكلفكم بالمماثلة العامة؛ بل حسبكم أن تأتوا بشيء فيه جنس المماثلة ومطلقها، ربما يكون مثلًا على التقريب لا التحديد. وهذا أقصى ما يمكن من التنزُّل، ولذا كان هو آخر صيغ التحدي نزولًا، فلم يجئ التحدي بلفظ "من مثله" إلا في سورة البقرة المدنية، وسائر المراتب بلفظ "مثله" في السور التي نزلت قبل ذلك بمكة؛ فتأمل هذا الفرق فإنه طريف. وأسأل الله أن يوفقنا وإياك لفهم أسرار كتابه، والانتفاع بهدايته وآدابه. [2] سورة الإسراء: الآية 88. [3] سورة البقرة: الآية 24.