يساومونه بالمال والملك ليكف عن دعوته[1]، أم يتواصون بمقاطعته، وبحبس الزاد عنه وعن عشيرته الأقربين حتى يموتوا جوعًا أو يسلموه[2]، أم يمنعون صوت القرآن أن يخرج من دور المسلمين خشية أن يسمعه أحد من أبنائهم[3]، أم يلقون فيه الشبهات والمطاعن، أم يتهمون صاحبه بالسحر والجنون ليصدوا عنه من لا يعرفه من القبائل القادمة في المواسم، أم يمكرون به ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه[4]، أم يخاطرون بمهجهم وأموالهم وأهليهم في محاربته، أفكان هذا كله تشاغلًا عن القرآن وقلة عناية بشأنه؟! ثم لماذا كل هذا وهو قد دلهم على أن الطريق الوحيد لإسكاته هو أن يجيئوه بكلام مثل الذي جاءهم به؟ ألم يكن ذلك أقرب إليهم وأبقى عليهم لو كان أمره في يدهم؟ ولكنهم طرقوا الأبواب كلها إلا هذا الباب، وكان القتل والأسر والفقر والذل كل أولئك أهون عليهم من ركوب هذا الطريق الوعر الذي دلهم عليه. فأي شيء يكون العجز إن لم يكن هذا هو العجز.
لا ريب أن هذه الحملات كلها لم تكن موجهة إلى شخص النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه، فقد كانوا من قبل تعطفهم عليهم أرحامهم، وتحببهم إليهم مكارم أخلاقهم. كما أنها [1] إيماء إلى القصة الطويلة التي نزلت فيها قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الآيات من سورة الإسراء: 90 فما فوقها] رواها ابن جرير بسند متصل فيه مبهم، ولها شاهد مرسل صحيح. [2] إيماء إلى خبر الصحيفة الجائرة التي تحالفت فيها قريش وكنانة على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله. رواه الشيخان عن الزهري، وفي شأن هذه المحالفة يقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في غزوة الفتح وفي حجة الوداع: "منزلنا غدًا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر" رواه الشيخان، انظر صحيح البخاري عن أبي هريرة، ك/ الحج، ب/ نزول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة "1487"، ومسلم عن أبي هريرة، ك/ الحج، ب/ استحباب النزول بالمحصب يوم النفرة والصلاة "2316". [3] لم يطق أشراف قريش أن يستعلن أبو بكر بقراءة القرآن في فناء داره إذ كانت تهوى إليه أفئدة من أبنائهم ونسائهم وعبيدهم يستمعون لقراءته، فخشي المشركون أن يفتتنوا، وكان ابن الدغنة قد أجار أبا بكر، فأمروه أن يسترد جواره منه إذا أصر على الإعلان بقراءته. وقد فعل. الحديث رواه البخاري، ك/ الحوالات، ب/ جوار أبي بكر "2134". [4] سورة الأنفال: الآية 30.