فقرأوه واستظهروه؛ وتذوقوا معناه وتمثلوه، وترسموا خطواته واغترفوا من مناهله -أن يدنوا أسلوبهم شيئًا من أسلوبه على ما تقضي به غريزة التأسي، وشيمة نقل الطباع من الطباع، ولكن شيئًا من ذلك كله لم يكن، وإنما كان قصارى فضل البليغ فيهم كما هو جهد البليغ فينا أن يظفر بشيء يقتبسه منه في تضاعيف مقالته ليزيدها به علوًّا ونباهة شأن.
بل نقول: لو كان الأسلوب القرآني صورة لتلك الفطرة المحمدية لوجب على قياس ما أصلته من المقدمات أن ينطبع من هذه الصورة على سائر الكلام المحمدي ما انطبع منها على أسلوب القرآن؛ لأن الفطرة الواحدة لا تكون فطرتين، والنفس الواحدة لا تكون نفسين[1] ونحن نرى الأسلوب القرآني فنراه ضربًا وحده، ونرى الأسلوب [1] هنا موضع سؤال، فكأننا بقائل يقول لنا: إنه ليس بدعًا من الأمر أن يكون للرجل البليغ ضربان من الكلام: أحدهما: يجيئه على البديهة فيرسله إرسالًا غير معني بتهذيبه وتجبيره، والآخر: يتأتى له بالروية ويحتفل به احتفالًا يجعل بينه وبين الضرب الأول بعدًا شاسعًا يخيل للسامع أنه قول شخص آخر مع صدور القولين عن قائل واحد. فهلا طبقتم هذا المثل في الكلام المحمدي فجعلتم حديثه من الضرب الأول وقرآنه من الضرب الثاني؟
والجواب: أن توزيع هذين الضربين على الحديث والقرآن توزيع لا يتفق والواقع في شيء؛ فقد كان أكثر الوحي القرآني يجيء إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في شأن لم يسبق عهد به ولم يتقدم منه تفكير فيه، بل كان يفاجئه من فوره على غير توقع وانتظار؛ جوابًا لسؤال سائل، أو فتيا في حادثة نزلت، أو قصصًا عن أمة مضت، أو ما إلى ذلك، وقليلًا ما كان يجيئه بعد تشوف وتلبث تمكن فيه الروية، كما في مسألة الإفك ومسألة تحويل القبلة، وقد رأينا أسلوبه في كلتا الحالين، فإذا نسقُه هو نسقُه ونظامُه هو نظامُه، وكذلك نقول: إن كلامه النبوي كانت تختلف عليه هذه الظروف ويتحد فيها أسلوبه، فقد كان يتكلم أحيانًا بعد تفكير طويل وروية وتشاور مع أصحابه كما رأينا من حديثه في مسألة الإفك، وكما نرى من حديثه بعد التشاور في شئون الحرب والصلح ونحوها، وأحيانًا بعد تلبث بسير؛ انتظارًا للوحي كما في قصة الرجل الذي جاء في الجعرانة سنة ثمان فسأل عن العمرة وهو متضمخ بالطب وعليه جبة، فنظر إليه النبي ساعة، ثم سكت، حتى جاءه الوحي، فلما سري عنه قال: "أين السائل عن العمرة"؟ فجيء به، فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك" رواه الشيخان. وأخرى كان يتكلم على البديهة فيما لا يشكل عليه أمره مما سبقت به قضية العقل أو الدين، وهو في كل ذلك يجري كما ترى على نمط واحد لا تستطيع أن تميز في أسلوبه بين ما كان معناه مدبرًا بالرأي وما كان معناه معلمًا بالوحي. ولا بين ما يرسله إرسالًا في حديثه مع أهله وأصحابه وما يحتفل به احتفالًا في الجموع المحشودة والأيام المشهودة. فتبين بطلان ما اعتمده السائل من تفرقة بين القرآن والحديث على هذا النحو. بل إننا لو ذهبنا إلى أبعد من ذلك وافترضنا جدلًا صحة هذا التقسيم لما صلح أساسًا يقوم عليه بنيان=