الإيجاز -بقدر ما يتسع له جمال اللغة- قد جعله هو أكثر الكلام افتنانًا، نعني أكثره تناولًا لشئون القول وأسرعه تنقلًا بينها[1]، من وصف، إلى قصص، إلى تشريع، إلى جدل، إلى ضروب شتى، بل جعل الفن الواحد منه يتشعب إلى فنون، والشأن الواحد فيه تنطوي تحته شئون وشئون.
جمع الأحاديث المختلفة المعاني، المتباعدة الأزمنة المتنوعة الملابسات في حديث واحد مسترسل هو مظنة التفكك والاقتضاب ومظنة المفارقة والتفاوت:
أوَ لست تعلم أن القرآن -في جل أمره- ما كان ينزل بهذه المعاني المختلفة جملة [1] والأعجب أنه مع كونه أكثر الكلام افتنانًا وتنويعًا في الموضوعات، هو أكثره افتنانًا وتلوينًا في الأسلوب في الموضوع الواحد. فهو لا يستمر طويلًا على نمط واحد من التعبير، كما أنه لا يستمر طويلًا على هدف واحد من المعاني، ألا تراه كما يتنقل في السورة الواحدة من معنى إلى معنى يتنقل في المعنى الواحد بين إنشاء وإخبار، وإظهار وإضمار، واسمية وفعلية، ومضي وحضور واستقبال وتكلم وغيبية وخطاب؛ إلى غير ذلك من طرق الأداء، على نحو من السرعة لا عهد لك بمثله ولا بما يقرب منه في كلام غيره قط. ومع هذه التحولات السريعة المستمرة التي هي مظنة الاختلاج والاضطراب، بل مظنة الكبوة والعثار، في داخل الموضوع أو في الخروج منه، تراه لا يضطرب ولا يتعثر، بل يحتفظ بتلك الطبقة العليا من متانة النظم وجود السبك حتى يصوغ من هذه الأفانين الكثيرة منظرًا مؤتلفًا. فأي امرئ حسن العربية وينظر في نظم القرآن هذه النظرة ثم لا يرى فيه من أثر القدرة الباهرة سرًّا من أسرار التحدي والإعجاز؟!
وأنت فقد تسمع بعض المبتدئين في تذوق جمال القرآن والبحث عن منابع جماله يتساءلون: ما سر تلك الحال النفسية التي يجدها تالي القرآن وسامعه من طراوة وتجدد في نشاطه مع كل مرحلة منه، حتى لا يعرف الملل مهما أمعن السير فيه؟ فنبئهم أن تلك الظاهرة العجيبة لها في القرآن منابع جمة قد أشير قبل إلى طرف منها "فيما تقدم لنا من الحديث عن خاصة القرآن الصوتية، ص109" وهذه الخاصة التي نشير إليها فيها منبع آخر أعمق وأغرز، غير أنه لا يقدرها حق قدرها إلا من نظر في كلام البلغاء ووقف على مبلغ افتنانهم في أساليبهم ومبلغ افتنانهم في أغراضهم، ثم جاء ليتدبر هاتين الناحيتين من نظم القرآن. فهناك يرى نفسه أمام نهاية لم يجاوز البلغاء بدايتها، إذ يرى أنه لا ينتقل فيه من خطوة إلى خطوة إلا استعرض في الخطوة التالية من مذاهب المعنى وألوان الأسلوب جديدًا إثر جديد. فكيف يعرف الملل سبيلًا إلى قلبه مع دوام هذه النظرة والتجديد؟ كل امرئ يستطيع أن يجرب نفسه حين يطول به الوقوف أمام منظر واحد جميل، هل يجد لديه من هزة الاستحسان في هذا الاستمرار ما يجده لو اعترض سلسلة من المناظر الرائعة قد صنفت فيها ضروب من الفوائد والمتع، ثم جعلت تمر به منوعة في أبدع تنسيق وأحسن تقويم؟ اللهم، لا. فذلك كذلك.