فكيف يطيق بشرٌ كائنًا من كان أن يضطلع بهذه المهمة؟ ثم كيف يمضي قدمًا في هذا الأمر إلى نهايته، فلا يعود إلى جزء ما ليزيله عن موضعه الذي أحله فيه أول مرة، أو ليلتجئ فيه إلى نحت أو حشو أو دعامة؟ ثم كيف تكون عاقبة أمره أنه في الوقت الذي يضع فيه آخر لبنة على هذا المنهاج يرفع يده عن مدينة منسقة ليس فيها قصر ولا غرفة ولا لبنة ولا جزء صغير ولا كبير إلا وقد نزل منزله الرصين الذي يرتضيه ذوق الفن، حتى لو تبدل واحد منها مكان غيره لاختل البينان أو ساء النظام؟ أليس ذلك إن وقع يكون تحديًا للقدرة البشرية جمعاء؟
ألا فقد وقع مصداق هذا المثل في مسألتنا. إليك البيان:
"أما" الرجل فهو هذا النبي الأمي -صلوات الله عليه وسلامه.
"وأما" المدينة الجامعة التي شرع في بنائها منذ وقعت له لبناتها الأولى فذلك الكتاب العزيز الذي أخذ هو منذ وصلت إليه باكورة رسائله يرتب أجزاءه ترتيب الواثق المطمئن إلى أنه سيكون له منها ديوان تام جامع.
"وأما" القصور، والغرفات، واللبنات، فهي أجزاء هذا الديوان: من السور، والنجوم، والآيات.
"وأما" تلك العوامل الفجائية التي جعلت تستنزل من مختلف معادن الجبال ما ركبت منه هذه القصور المشيدة فتلك هي الأحداث الكونية والاجتماعية، والمشاكل الدينية والدنيوية التي كانت تعترض الناس آنًا بعد آن في شئونهم العامة والخاصة، فكان يتقدم بها المؤمن منهم مستفتيًا ومسترشدًا، والمكذب مستشكلًا ومجادلًا، وكان على وفق ذلك يتنزل الكلام نجمًا فنجمًا، بمعان تختلف باختلاف تلك المناسبات والبواعث، وبمقادير تتفاوت قلة وكثرة، وعلى طرق تتنوع لينًا وشدة.. ومن هذه النجوم المختلفة المتفرقة صارت تتألف تلك المجاميع المسماة بالسور، لا على أساس التجانس بين أجزاء