قال في شأن الملة- إن أهل الكتاب يدعونكم -بعد هذا البيان- أن تكونوا هودًا أو نصارى. فقولوا لهم: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفًا، وعرفوهم جلية الأمر في هذه الملة الحنيفية، وأنها إيمان بالله بكل ما أنزل على النبيين لا نفرق بين أحد منهم، هذه عقيدتنا بيضاء ناصعة، فأي ركنيها تنقمون منا؟ وفي أيها تخاصموننا؟ أفي الله وهو ربنا وربكم، أم في إبراهيم وبنيه، وهل كانوا هودًا أو نصارى {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
وكان هذا الترديد وحده كافيًا لإفحامهم وإغلاق الباب في وجوههم من هذه الناحية؛ إذ تبين أن أصول هذه الملة أمنع من أن نقبل الجدال في شيء منها.
فانتقل عنها وشيكًا إلى إبطال محاولتهم الأخرى في مسألة "الكعبة المعظمة" التي عليها يدور العمل بشعيرتين، هما أعظم شعائر الإسلام وأظهرها "الصلاة والحج"، والتي قد تقرر ما لها من الأصل الأصيل في الدين باتخاذ إبراهيم وإسماعيل إياها مثابة ومصلى. ولكن هذا لم يكن كافيًا لإسكات المجادلين الذين اتخذوا من تحول المسلمين إليها وتركهم القبلة التي كانوا عليها مطعنًا على النبوة فتنوا به بعض ضعفاء المؤمنين، فمست الحاجة إلى مزيد بسط في شأنها تتقرر به الحجة وتدحض به الشبهة، ولذلك تراه يوجه إليها أكبر الشطرين من عنايته:
فيأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بادئ ذي بدء أن يجيب المتسائلين عن حكمة هذا التحويل جواب عزة وإباء، يرد الأمر فيه إلى من لا يسأل عما يفعل، قائلًا لهم: إن الجهات كلها سواء، يوجهنا الله منها إلى ما يشاء، وهو الذي يهدي إلى الصراط المستقيم.
ثم أخذ يأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تارة، والمؤمنين تارة، ويأمرهما معًا تارة أخرى، في أسلوب مؤكد مفصل أن يثبتوا على هذه القبلة حيث هم، وفي كل مكان يقيمون فيه حضرًا، وفي كل مكان يخرجون منه سفرًا.