السنة السادسة من الهجرة؛ ولكن لأن أداء المناسك في ذلك العام كان عزمًا لم ينفذ، وأملًا لم يتحقق، إذ أحصر المسلمون يومئذ عن البيت، وهموا أن يبطشوا بأعدائهم الذين صدوهم عنه؛ ولولا أن الله نهاهم عن البدء بالعدوان وأمرهم ألا يقاتلوا في المسجد الحرام إلا من قاتلهم فيه، فانصرفوا راجعين، مستسلمين لأمر الله، منتظرين تحقيق وعد الله.. فكذلك فلينصرف القارئ أو المستمع ها هنا وهو متعطش لإتمام حديث الحج على أن يعود إليه بعد فاصل، كما انصرف المسلمون إذ ذاك عن مكة وهم إليها متعطشون، على أن يعودوا إليها من عام قابل.. هكذا كانت هذه الآيات الفاصلة تذكارًا خالدًا لتلك الأحداث الأولى ... وهكذا كان القرآن الحكيم مرآة صافية نطالع فيها صور الحقائق من كل لون نقتبسها طورًا من تصريح تعبيره، وطورًا من نهجه وأسلوبه في تعجيل البيان أو تأخيره. ثم كانت هذه الآيات الفاصلة في الوقت نفسه درسًا عمليًّا في صبر المتعلم على أستاذه، لا يعجله بالسؤال عن أمر في أثناء حديثه؛ ولكن يتلبث قليلًا حتى يحدث له منه ذكرًا في ساعته الموقوتة.. وهكذا لن يطول بنا الانتظار حتى نرى أحكام الحج والعمرة تجيء في إثر ذلك على شوق وظمأ، فتشبع وتروي بالبيان الشافي الوافي "196- 203"، وبتمام هذا البيان تتم الحلقة الأولى من الأحكام؛ أعني فريضة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس.
استجمامة "204- 214":
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ