قليل ولا كثير، غير أنه لم يكن أميًّا ولا وثنيًّا مثلهم، بل كان نصرانيًّا يقرأ ويكتب، فكان من أجل ذلك خليقًا في زعمهم أن يكون أستاذًا لمحمد، وبالتالي أستاذًا لعلماء اليهود والنصارى والعالم أجمعين، ولئن سألتهم هل كان ذلك الغلام فارغًا لدراسة الكتب وتمحيص أصيلها من دخيلها، ورد متشابهها إلى محكمها، وهل كان مزودًا في عقله ولسانه بوسائل الفهم والتفهيم.. لعرفت أنه كان حدادًا منهمكًا في مطرقته وسندانه، وأنه كان عامي الفؤاد لا يعلم الكتاب إلا أماني، أعجمي اللسان لا تعدو قراءته أن تكون رطانة لا يعرفها محمد ولا أحد من قومه، لكن ذلك كله لم يكن ليحول بينه وبين لقب الأستاذية الذي منحوه إياه على رغم أنف الحاسدين!
هكذا ضاقت بهم دائرة الجد فما وسعهم إلا فضاء الهزل، وهكذا أمعنوا في هزلهم حتى خرجوا عن وقار العقل، فكان مثلهم كمثل من يقول: إن العلم يستقى من الجهل، وإن الإنسان يتعلم كلامه من الببغاء! وكفى بهذا هزيمة وفضيحة لقائله {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [1].
نعم، إنهم رأوا في هذا الأسلوب من حلاوة الفكاهة والملحة ما يسيغ مراة الزور والباطل، ورأوا في هذه الصورة الخيالية من التهكم والسخرية ما يشفي صدورهم ويجعلهم يتضاحكون بملء أفواههم، ولكنهم ما دروا أن في طي هذه السخرية سخرية بهم، وأنهم قد شهدوا فيها على أنفسهم أنهم أجهل الأمم، وأن كل غريب عنهم -ولو كان غلامًا سوقيًّا- أهل لأن يقال عنه: إن عنده من العلم ما ليس عندهم. فيا له من نطق كان العي في موضعه خيرًا لهم وأستر عليهم، ويا له من سلاح أرادوا أن يجرحوا به خصمهم، فجرحوا به أنفسهم من حيث لا يشعرون.
أما الحق الذي كانوا يخاصمونه فقد -والله- زادوه بهذا الاتهام قوة إلى قوته. ذلك [1] سورة النحل: الآية 103 وما بعدها.