كيف وهو الذي جعل النملة تتكلم بما ينم عن رفع الضر عنها وعن جماعتها وجلب النفع لهم، كما سيأتي في الآية 18 من سورة النمل الآتية بما ركب فيها من عقل، وجعل البعير والظبي والحجر والشجر تكلم حضرة الرسول بما أودع فيها من فهم لرفع ظلامتها إليه، وسعي الشجرة إليه، وانشقاق القمر بإشارته، إذا فلا يمتري من عنده لمحة من عقل أن يتردد في هذا العهد وأخذه من نسم الذرية وإجابتهم لخالقهم بما ذكر، اعترافا بالعبودية له وإذعانا لعظمته، وإن هذا العهد لقطع العذر يوم القيامة، وعدم قبول الاحتجاج بعدم علمهم به حينما يسألون عنه، وهذا هو المختار في تفسير هذه الآية الموافق لمذهب أهل السنة والجماعة من السلف الصالح والخلف الناجح، وهو مؤيد بالحديث الصحيح الذي رواه مسلم بن يسار الجهني بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) الآية قال: سئل عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون.
فقال يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: إن الله سبحانه وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل أهل النار، فيدخل النار- أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود وقال حديث حسن، وأخرج الطبري نحوه عن أبي هريرة، وأخرجه الترمذي أيضا وقال حديث حسن صحيح ولا منافاة بين الآية والحديث من حيث أن الحديث يقول من ظهر آدم والآية تتضمن من ظهر ذريته لما مر تفصيله في تفسيرها آنفا، وقد بين الله تعالى سبب أخذ العهد آخر الآية وخاطبهم بإيجاب الاعتراف بربوبيته عليهم على طريق الاستفهام التقريري وإجابته بأسرها بالإيجاب، وأوجب على الرسل تذكير أقوامهم ومن أرسلوا إليهم بهذا العهد، وان الرسل لا شك نبهوهم له وأرشدوهم للمحافظة عليه، لئلا يبقى لهم عذر، فمن أنكر كان معاندا ناقضا عهده لا عذر له البتة، قال تعالى