فَضْلِهِ «1»
، إذ الحياة الحقة أن تعيش مرفوع الرأس موفور الكرامة في قولك وتصرفك وقلمك ورأيك واعتقادك، أن تعيش في أمة لا سلطان لأحد عليها. ولا من يتحكم في رقابها وحقوقها وأموالها رأيها المحترم وقولها النافذ، ومصلحتها المقدسة، ولن يعيش في أمة هذا وصفها إلا من بذل نفسه في الذود «2»
عنها وكرّس حياته في جلب الخير لها، ودفع الضرر عنها. هذا هو الكريم حقا، هذا هو الشجاع صدقا، هذا هو الجواد بلا ريب. والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
تأخرت استبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
أما الذي يبخل بماله عن نفسه فلا ينفقه في سبيل ترفيهها وإسعادها وتهذيبها وسد حاجتها وتقديم الطيبات لها، أو يبخل به عن الفقراء والمساكين، والعجزة والمقعدين، والمنكوبين والملهوفين، أو يبخل به عن الجهاد، ومناجزة الأعداء، ومصالح الأمة العامة، الذي يبخل بماله عن ذلك ويحبسه في خزائنه إنما يسعى في هلاك نفسه والقضاء على أمته.
وما يبغي من يكنز أمواله عن حقوقها؟ أفيطمع أن يأخذه معه إلى جدثه «3»
؟ أو ينفق منه في عالم الغربة والوحدة؟ أينفعه إذ ما وقف أسرع الحاسبين. واشتد الكرب وهال «4»
الخطب؟ كلا لن ينفع الإنسان بعد وفاته ما له إذا لم يكن من عمله منقذ وناصر، بل يكون شرا عليه ونكالا لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ «5»
، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ «6»
والمؤمن الصادق من بذل في سبيل الدين نفسه وفي إعلاء شأن أمته ماله.
(1) سورة آل عمران، الآيتان: 169، 170.
(2) الذود: الدفاع والتضحية.
(3) جدثه: قبره.
(4) مال: خاف ورعب وفزع.
(5) سورة آل عمران، الآية: 180.
(6) سورة التوبة، الآيتان: 34، 35.