الوحي ولّى مستكبرا كأن لم يسمعها، كأن في أذنيه وقرا، لا يرفع به رأسا، ولا يفتح له قلبا، ولا يقبل منه هدى. وهذا مثّله الرسول صلى الله عليه وسلم بالأرض المستوية؛ الرخوة السّبخة [1] ؛ إذا نزل بها الماء أضلته في جوفها؛ وأضاعته في مسامها؛ ولم تخرج به كلأ ولا عشبا؛ ولا نباتا ولا ثمرا، فلا هي انتفعت بالماء ولا هي أمسكته على ظهرها، فانتفع به الحيوان والإنسان أو سقي به أرض أخرى طيبة نقية فكذلك هذا الفريق لم ينتفع بالوحي ولم ينفع به فكان مثله كمثل الأرض الخبيثة، وهذا الفريق الذي قال الله فيه: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [2] .
وفريق ثالث بين الفريقين لم يذكره الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذكر مثله ومن عرف الفريقين عرفه: بل المثل وحده يرشد إليه؛ فهو ذلك الشخص الذي سمع القرآن؛ فعقله وفهمه، ووقف على أحكامه، وحلاله وحرامه، ولكن لم يعمل به في خاصة نفسه، ولكن دعا الناس إليه علمهم ما تعلم، فهو كالذين قال الله فيهم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [3] فهذا قد نفع الله به العباد، وجعله معبر خير لهم ولم ينتفع هو بما علم وعلّم، وكان حريا [4] به أن يهذب نفسه بما هذب به غيره، فهذا مثله كالأرض الصلبة التي تمسك الماء لا تشربه، فيشرب منه الناس والحيوان، وتسقي به الأرض الطيبة الخصبة، ويلقي بها الحب والبذور، فينبت بالماء نباتا حسنا، فيأكل الإنسان ويرعى الحيوان، فالأجادب نفعت ولم تنفع، كذلك العالم بالقرآن يعلمه ولا يعمل به، أفترضى أن تكون أرضا مجدبة؟ أليست نفسك أولى ببرّك وعلمك، أتريد أن تكون ممن قال الله فيهم: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ.
كَبُرَ مَقْتاً [5] عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ [6] فاستمع للوحي وتدبره، وهذب به نفسك؛ وكمل به خلقك؛ وادع الناس إليه بقولك، كما تدعوهم بعلمك وَمَنْ [1] السّبخة: أرض ذات ملح ونز لا تكاد تنبت. [2] سورة البقرة، الآيتان: 6، 7. [3] سورة البقرة، الآية: 44. [4] حريا: جديرا. [5] المقت: البغض والكره. [6] سورة الصف، الآيتان: 2، 3.