والنبوغ [1] مقبور، والجد في العمل مضمحل والغيرة على أداء الواجب والدأب في سبيل مصلحة الأمة والأمانة في خدمتها وتقدير العاملين. كل ذلك يتلاشى [2] ولا تجد له أثرا في حياتها ويحل مكانه الخمول والضعف وتصاب مصالح الأمة بالشلل، وعقول النابغين بالعقم، ومواهب المفكرين بالجمود، وعزائم المجدين بالخور والفتور. وأي خير يرجى من قوم يكون مقياس الكفاءة فيهم ما يتزلف به المرؤس من قرابين؟ وأي إنتاج يترقب من هيئة حكومية لا يرقى فيها إلا من قدم بين يدي رقيه أنواع الهدايا والرشا لرؤسائه؟
وقد تلبس الرشوة ثوبا مستعارا ولكنه يشف عن حقيقتها بأن تكون على صورة هدية أو محاباة في بيع أو شراء أو إبراء من دين أو نحو ذلك وهي في جميع الصور رشوة بشعة المنظر سيئة المخبر، كريهة الرائحة، ملوثة للشرف والكرامة، مضيعة للعفة والمهانة.
ولذا كان الراشي والمرتشي ملعونين من الله ومن الناس، لأن الراشي يساعد المرتشي على تضييع الحقوق ويسهل له أكل أموال الناس بالباطل، وينمي فيه الخلق السيء، وييسر له التحكم فيما هو حق لغيره، فيستمرىء هذا المرعى الوبيل، والمرتشي قد أخذ مال غيره ومنع الحق عن صاحبه حتى يأخذ الرشوة منه، وربما كان الراشي في حاجة ماسة إلى ما يقدم إليه.
والرشوة محرمة حتى ولو كانت في سبيل إيصال الحق إلى صاحبه لأنها مال بدون عوض، فما بالك إذا كانت لأجل ظلم شخص، أو منع المستحق عن حقه؟
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول» .
ولقد قال العلماء: إن الهدايا التي تهدى للقضاة ونحوهم، هي نوع من الرشوة، لأن المهدي إذا لم يكن معتادا للإهداء إلى القاضي قبل ولايته، لا يهدي إليه إلا لغرض، وهو إما التقوى به على الباطل أو التوصل بالهدية إلى حقه، وأقل الأحوال أن يكون طالبا الزلفى إليه وتعظيمه والاستطالة على خصومه أو الأمن من [1] النبوغ: نبغ المرء في العلم: برع وأجاد. [2] يتلاشى: يذوب ويختفي.