قال شيخ الإسلام: " اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغون عن الله -تعالى-، وبهذا يحصل المقصود من البعثة، ولو لم تقع منهم الذنوب لفاتهم ما في التوبة من محبة الله وفرحه، ورفع درجة التائب، وكون التائب بعد التوبة أفضل منه قبلها، مع ما في القول بأن الذنوب لا تقع منهم من تكذيب لكتاب الله، وأخبار رسوله، أو تحريف لها، ومن اعتقد أن كل من لم يكفر، ولم يذنب، أفضل من كل من آمن بعد كفره، أو تاب بعد الذنب، فهو مخالف لما علم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن من المعلوم أن الصحابة أفضل من أبنائهم الذين ولدوا في الإسلام.
وقد قال -تعالى- في أفضل الرسل: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} لما نزلت قال الصحابة: يا رسول الله، هذا لك، فما لنا؟ فأنزل – عز وجل -: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} .
وتوبة الأنبياء واستغفارهم أدلته كثيرة، فكيف يقال: إنه لم يكن لهم ما يوجب التوبة والاستغفار، ولا تفضل الله عليهم بمحبته، وفرحه بتوبتهم، ومغفرته لهم ورحمته، واعتراف جليل القدر بما هو عليه من الحاجة إلى التوبة والاستغفار دليل على صدقه، ورفعته، وتواضعه، وعبوديته لله تعالى – والغنى عن الحاجة من خصائص الربوبية وقد قال –صلى الله عليه وسلم-: " اللهم اغفر خطئي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي" [1] .
قال: " باب: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} " (2)
يريد بهذه الترجمة بيان أن هاتين الصفتين – السمع والبصر- ثابتتان لله بالكتاب والسنة، وإجماع أتباع الرسل، وبالعقل، والفطرة، وبيان أن الله -تعالى- لم يزل بصفاته، وبيان أن المنكر لهاتين الصفتين قد ضل عن كتاب الله، وسنة رسوله، واتبع غير سبيل المؤمنين أتباع الرسل.
قال القسطلاني: " وقد علم بالضرورة من الدين، وثبت في الكتاب والسنة، بحيث لا يمكن إنكاره ولا تأويله، أن الباري -تعالى- حي سميع بصير، وانعقد إجماع أهل الأديان – بل جميع العقلاء- على ذلك" [3] .
"فالسمع، والبصر، والحياة، والعلم، والقدرة، والكلام، ونحوها، صفات كمال لا نقص فيها، فمن اتصف بها أكمل ممن لا يتصف بها، والنقص في انتفائها لا في ثبوتها بإجماع العقلاء، والقابل للاتصاف بها كالحيوان أكمل، ممن لا يقبل الاتصاف بها كالجماد" (4)
قلت: الحامل على إنكار ذلك هو الجهل بالله -تعالى- والقياس الفاسد؛ حيث قاسوا ذلك على ما يعرفون من أنفسهم بأن السمع ينشأ عن وصول الهواء إلى عصب الصماخ، والبصر عبارة عن وقوع أشعة الإبصار على جسم مقابل.
قالوا: هذا لا يكون إلا من جوارح وأجسام. [1] انظر: " منهاج السنة" (1/227-228) ملخصاً.
(2) الآية 134 من سورة النساء.
(3) "إرشاد الساري" (10/370) .
(4) "مجموع الفتاوى" (6/88) .