الفصل السابع في رأي أبي حنيفة وأتباعه في اعتبار المناسب المرسل
تمهيد
أشرت فيما سبق إلى أن أبا حنيفة رحمه الله لم يدون أصول مذهبه التي كان يعتمد عليها في الاستنباط وتفريع الأحكام، شأنه في ذلك شأن مالك وأحمد رحمهما الله تعالى، غير أنه مما لا شك فيه أنه كان يقيد نفسه في الأقيسة التي كان يقيسها، وفي طريقة استنباطه للأحكام واستخراج العلل بأصول وقواعد يلزم نفسه بها، ولا يخرج عنها، وإن لم يدونها.
وكيف لا تكون له أصول يعتمد عليها وهو إمام مدرسة أهل الرأي في زمنه؟! وقد عرف بكثرة تفريع المسائل فهو وإن لم تؤثر عنه أصول مفصلة للأحكام التي كان يستنبطها، فلا بد أن تكون له أصول يلاحظها ويربط نفسه بها في استنباط الأحكام، وإن يدونها كما لم يدون فروعه، فإن التناسق والتجانس الفكري بين أنواع الفروع التي رويت عنه يدل على أنه كان يقيد نفسه بقواعد لا يخرج عنها، وكونه لم يدون أصول مذهبه فهذا ليس دليلاً على عدم وجودها فشأنه في ذلك شأن غيره من أئمة المذاهب الذين لم يدونوا أصول مذاهبهم غير أن أتباعهم دونوها.
وليس للباحث إلا أن يسلم صحة ما نسبه علماء المذهب لإمامهم وإذا كان علماء الأحناف دونوا أصولاً اعتبروها أصول مذهب إمامهم والتزموها في استنباط الأحكام وتفريع الفروع على أنها أصول مذهب الإمام، فليس لنا إلا اعتبار ذلك، وإن لم تتصل لنا نسبة ذلك إليه، ويدل لهذا ما جاء في تاريخ بغداد، نقلاً عن أبي حنيفة ونصه: "آخذ بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم، وأدع من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى