خامساً: قام عدد من الصحابة، فيما رُوي عنهم، وعدد من الفقهاء بتحديد ليلة القدر، مستدلين بنصوصٍ مما أوردتها، فأقول: إن كان هؤلاء قد قاموا بالتحديد بناء على الأَمارات التي أخبرهم بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هذا التحديد لا يرقى إلى درجة العلم اليقيني، وإنما هو تحديدٌ ظني، قد يصح وقد يخطيء. وبناء عليه فإني أقول إن جميع التحديدات المسنَدة إلى الصحابة والتابعين والفقهاء إنما هي من قبيل الظن أو غلبة الظن، وليست بأية حال من الأحوال علماً يقينياً لا تحل مخالفته. وكمثال على ذلك ما ورد على لسان الصحابي الجليل أُبي بن كعب رضي الله عنه من قوله المذكور في الحديث 1 من مجموعة زر بن حبيش (ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين) فقد أخذ علمه بالتحديد من الأَمارات التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، ولم يدَّعِ أخذَ علمِه بها من أقواله عليه الصلاة والسلام، فهو يقول (بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلعِ يومئذٍ لا شعاع لها) وقل مثل ذلك بخصوص سائر الروايات المروية عنه. فأبي بن كعب رضي الله تعالى عنه سمع الأَمارات والعلامات من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اجتهد في تطبيقها على الواقع فخرج بالنتيجة أنها ليلة سبع وعشرين، وإذن فإن التحديد هو اجتهادٌ منه وليس خبراً ينقله إلينا يتوجب علينا قبولُه والأخذُ به. أما قول الحديث (ثم حلف لا يستثني) فلا ينفي القول باجتهاده، ولا يجعله بالحلف خبراً يقينياً ما دام قد خرج بهذه النتيجة من النظر في الأَمارات. فالاجتهاد في الأَمارات لا يؤدي إلى القطع في التحديد والعلم، وإلا لاتفق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحديد أُبي، بل ولاتفق المسلمون على التحديد لتوفُّر الأَمارات لديهم.