وإذن فقد تحصَّلت عندنا ستُّ روايات عند الشيخين،لم تأت فيها الأمارة مقيدة بصبيحة ليلة القدر، وثلاث روايات فقط عندهما قُيدت الأَمارة بالصبيحة، وأنا أُرَجِّح الروايات الست على الروايات الثلاث ولا يبعد عندي أن ذِكْر (من صبيحتها) قد حصل بسبب حصول الماء والطين صبيحة تلك الليلة، فنسبوا ذلك التقييد للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا تأويل ممكن، حتى نتمكن من التوفيق بين الروايات، لا سيما وأن الروايات المطلقة أكثر من الروايات المقيدة، فهي أرجح منها في الاستدلال، ثم إننا نلجأ لهذا التأويل حتى تتوافق هذه الروايات المقيدة مع روايات عبد الله بن أنيس في البند السابع من الأحاديث المتفرقة التي ذكرت أن الأَمارة قد حصلت صبيحة ليلة ثلاثٍ وعشرين، وبدون هذا التأويل نضطر لرد روايات أبي سعيد المقيِّدة أو ردِّ رواية عبد الله بن أنيس، وإعمال الأدلة دائماً أولى وأفضل من إهمال بعضها. وبقولنا إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقيِّد سجوده في الماء والطين بأي قيد، وإنما أطلق القول ثم صدف أنَّ المطر نزل في صبيحة ليلة إحدى وعشرين، ونزل أيضاً في صبيحة ثلاث وعشرين فظن أبو سعيد أن ليلة إحدى وعشرين هي التي انطبقت عليها الأمارة، وظن عبد الله بن أنيس أن ليلة ثلاث وعشرين هي التي انطبقت عليها الأمارة، فجاء القولان مختلفَيْن بسبب ذلك، فإنا نكون بهذا القول قد أعملنا الروايات كلِّها ولم نقم بردِّ أيٍّ منها.
إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال قولين منفصلين: رأى ليلة القدر وأُنسيها، ورأى أنه يسجد في ماء وطين، ولم يربط أحد القولين بالآخر، وجاء الربط كما يبدو من فهم الرواة بسبب نزول المطر في صبيحة كلا الليلتين، وبهذا الفهم وبهذا التأويل نكون قد أعملنا الأدلة كلها.