التخيل، وأن أحدهما "وهو الفلسفة" ليس سوى معرفة محضة وبسيطة، والآخر اقتناع عميق، ومؤثر، وأخّاذ- مهما تكن الفروق بينهما فإن للفلسفة في جانبها الأسمى، وللدين في جميع أشكاله، موضوعًا مزدوجًا مشتركًا، هو: حل مشكلة الوجود؛ أصله ومصيره، وتحديد الطريقة الحكيمة والمثلى للسلوك، ولتحصيل السعادة.
بيد أن أفضل ما يدل على التشابه بين المادة القرآنية بخاصة، وبين الفلسفة -أن نلحظ أن القرآن حين يعرض نظريته عن الحق، وعن الفضيلة لا يكتفي دائمًا بأن يذكر بهما العقل، ويثير أمرهما باستمرار أمام التفكر والتأمل، وإنما يتولى هو بنفسه التدليل على ما يقدم، ويتولى تسويغه. وفضلًا عن ذلك، فإن طبيعة استدلالاته، والطريقة التي يسوق بها الدليل؛ قد اختيرت كلتاهما على وجه يفحم أعظم الفلاسفة دقة، وأشد المناطقة صرامة، في الوقت الذي تُلبى فيه أكثر المطالب واقعية، كما تروق أرقى الأذواق الشعرية وأرقها، وأبسط المدارك وأقلها.
فليس يكفي إذن أن نقول: إن القرآن لا ينكر الفلسفة الحقة، وليدة التفكير الناضج، وعاشقة اليقين؛ ولا يكفي كذلك أن تقول: إنه يوافقها ويشجعها، وإنه يرتضي بحثها المنصف، بل ينبغي أن نضيف إلى ذلك: أنه يمدها بمادة غزيرة في الموضوعات، وفي الاستدلالات.
ولا ريب أن القرآن لا يقدم إلينا هذه الحقائق الأساسية مجتمعة، في صورة نظام موحد. بيد أننا نتساءل: إذا كان نظام كهذا لم يوجد كاملًا، أفلا يوجد في هذا الكتاب جميع العناصر الضرورية، والكافية لبنائه؟
الحق أنه لا مراء في أن القرآن مشتمل على جميع العناصر الأساسية للفلسفة الدينية: أصل الإنسان، ومصيره، وأصل العالم ومصيره، ومبادئ السبب والغاية، وأفكار عن النفس، وعن الله ... إلخ. وإن دراسة مثل هذا الموضوع لجديرة أن يخصص لها عمل مستقل.