ولا يقولن أحد: إننا بهذه الطريقة ننظم الكرم العلوي على نحو صارم، فلسنا نحن, ولكن القرآن الذي يقول ذلك، حين يفرق في الحقيقة بين نوعين من الفضل، أحدهما عام، والآخر محدود. وحين يتحدث القرآن عن النوع الأول يستعمل الفعل في الماضي: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [1]، وهو يقدمها واقعًا ضم جميع الأشياء في الدنيا، ولذا فإن الناس جميعًا يتمتعون بها بنفس القدر، الطيبون منهم والأشرار. هذا الفضل العام يتبع نظام الوجود، وهو شرط في المسئولية، وبمقتضاه يملك كل إنسان، من الناحيتين الأخلاقية والمادية، الوسائل الضرورية لفهم الشرع والخضوع له. ولكن القرآن حين يتحدث عن النوع الثاني يتناوله في المستقبل: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} [2]، إنه يتبع نظام القيم، وهو ثمن للمسئولية، فينبغي أن يضمن إذن لأولئك الذين رعوا تكاليفهم بإخلاص، وهو أمر طبيعي. وعلى هذا المبدأ تعتمد الحكمة القرآنية المشهورة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [3]. [1] الأعراف: 156. [2] الأعراف السابقة. [3] الحجرات: 13.
ب- الأساس القانوني:
هذا هو الشرط الثاني للمسئولية، فالقرآن يعلمنا أن أحدًا لن يحاسب على أفعاله دون أن يكون قد أعلم مسبقًا بأحكامها.
وهذا الإعلام يأتي من طريقين مختلفتين: داخلية، وخارجية، فقواعد القانون الأخلاقي في أكثر صورها شمولًا مسجلة بشكل ما في أنفسنا، وليس علينا لكي ندرك مغزاها، سوى أن نستخدم قدراتنا وملكاتنا الفطرية: فنستشير عقلنا، ونستبطن قلبنا، أو نتبع غرائزنا الخيرة. ولما كانت معرفة هذا القانون الفطري في وسع كل إنسان، على تفاوت بين الأفراد،