ويستهدف المطلق، على حين لا يبلغ الآخر مباشرة سوى الحواس الظاهرة، ولا يرى أمامه سوى النظام الاجتماعي. على الرغم من هذا كله، فإن بين نوعي الجزاء اللذين درسناهما آنفًا حظًّا مشتركًا، هو أنها ينتميان إلى مجال الواقع، وأنهما يمارسان في هذه الدنيا.
وعلينا أن ندرس الآن طبيعة الجزاء الإلهي، وامتداده، ثم نحدد مكانته في نظام التربية الأخلاقية القرآنية.
إن في العالم غير الإسلامي فكرة ذائعة تقول بأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لم يلق عنتًا في هداية الشعب العربي؛ لأن الحرارة المحرقة، وظروف الحياة القاسية كانا لديه وسيلتين مؤثرتين لاجتذاب قومه، ودعوتهم إلى حياة أفضل، لقد قال لهم: افعلوا ما آمركم به، ولسوف يعطيكم الله أنهارًا وجنات، تأكلون فيها وتشربون ما تشاءون.
ولم يكن من شأن الأدب الشعبي وحده أن يدور حول هذه الفكرة: "جنة محمد". ولكن مؤرخين وفلاسفة كثيرين[1] قد رددوا نفس المقالة، ولم يتخلصوا من تأثير هذه الأفكار الجارية، المقتبسة عن أفكار سابقة، هي في أغلب الأحيان منقولة سماعًا.
إن أولئك الذين ألفوا دراسة التاريخ العربي الإسلامي يدهشون من هذه الطريقة في تصور الأمور، ويستطيعون، على الأقل أن يقولوا: أنها تستند إلى معطيات مبتورة، فالصورة التي يقدمونها إليهم، وهم يصفون الشعب العربي في هذا الضوء المادي المسرف -تبتعد فعلًا عن الواقع نهارًا جهارًا، [1] انظر في ذلك مثلًا: Kant, Critique De La Raison Pratique, P. 130. G.-Demombynes, Institution Musulmanes, P. 62-3.