إلى أن يتدارك لديهم ردود فعل الإفراط: كالنفرة والتراخي، وتصدع العمل وهجره، وعدم التوازن أو إهمال الواجبات الأخرى التي ليست بأقل أهمية. وهو يستهدف أن يتحاشى التكلف، والأساليب المتجاوزة للحد، التي يبغضها، أولًا وقبل كل شيء، ولقد أمره ربه أن يقول: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِين} [1].
بيد أن هذه الرحمة التي يبديها تجاه الناس لا تنفي لديه، أو لدى من يريدون ويستطيعون الاقتداء به التزامًا واضحًا نحو أنفسهم أن يبذلوا أشجع الجهد، ولكنه في الوقت نفسه أعقله وأوفقه.
وجملة القول أننا هنا أمام تركيب تلتقي فيه الشدة واللطف، أما وهذا هو الفقه القرآني في هذه المسألة، فلسنا نجد أصدق من أن نقدم بين يدي هذا الفقه شاهدًا من النص ذاته، وهو يجمع هاتين الفكرتين في آية واحدة:
يقول تبارك وتعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [2].
وكذلك ترد على لسان النبي -صلى الله عليه وسلم- تعبيرات مماثلة، والواقع أنه كان يقرر دائمًا أن أهم سمات النظام الإسلامي أن يضم صفتين معًا في وقت واحد: إنه "متين"، وإنه "يسر"، وذلك قوله, صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق" [3]، "ولن يشاد الدين أحدًا إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا" [4]. [1] ص: 86. [2] الحج: آخر آية. [3] انظر مسند أحمد, من طريق أنس. [4] البخاري, كتاب الإيمان, باب 29، 3/ 199. "المعرب".