ولذلك نجد القرآن يذكر المؤمنين بالتزامهم العام، بموجب عقد الإيمان -قبل أن يطلب منهم طاعتهم المخلصة. وهكذا لا تكون الصفة الإلهية للأمر القرآني سوى لحظة وسيطة، بين شعورين إنسانيين يستحثهما دائمًا.
فمن الوجهة التحليلية نجد أن "العنصرالديني" و"العنصر الأخلاقي" مفهومان مستقلان، لا رابطة بينهما ضرورية، وهما إجابة عن نوعين من المثل الأعلى مختلفين: أحدهما يتعلق "بالكينونة" والآخر "بالمصير"، ففي المجال الأول يكون المثل الأعلى هو الكائن الكامل، الحق، الجميل في ذاته، وهو موضوع المعرفة، والتأمل، والحب. وفي المجال الثاني يكون المثل الأعلى هو العمل الكامل، الذي نسميه: الفضيلة، موضوع الطموح، والإبداع.
وإنما نقرب بين هذين المفهومين نتيجة اتفاق منطقي، وحكم تركيبي -كما يقول كانت- حين نجعل من الله الخالق سيدًا مشرعًا، وحين نتخذ من توجيهه أمرًا أخلاقيًّا. ولكي نبلغ هذه النتيجة يجب أن نمر ضرورة بمجموعة ثالثة من الأفكار الوسيطة. فنحن لا نميز فقط لدى الخالق صفات أخلاقية بوجه خاص: كالعدالة، والحكمة، والكرم، ولكننا أيضًا نتخذ من شرعه "شرعًا لنا"، ونجعل أمره "أمرنا" وبدون ذلك يظل المفهومان بالنسبة إلينا منفصلين لا يمكن وصلهما.
وثالثًا وأخيرًا: فإن المتأمل في الأخلاق القرآنية لا يجد فقط أن هنالك واجبات أسرية واجتماعية كثيرة قد تركت دون تحديد من الناحية الكمية، وعهد بها إلى تقدير الضمير المشترك، بل إن كل تكليف قرآني يجعل شرط تطبيقه مجموعة من الاعتبارات، تحترم الوسع الإنساني، وتحسب حساب الواقع المادي، والتوافق بين الواجبات. ومن هنا فهو يخول كل ضمير فردي جزءًا من النشاط التشريعي، وهو جزء ضروري لصوغ واجبه المادي في كل لحظة.