المدينة. ولكن محنة الرسول الكبرى لم تكن قد أزفت بعد. وإذ غودر على هذه الحال، سأله أبو بكر غير مرة ان يهاجر إلى المدينة، ولكن الرسول أجابه بقوله إن الله لمّا يأمره بذلك بعد. وهنا أيضا كانت تكمن حكمة إلهية تجلّت في قرار قريش النهائي. فحتى ذلك الحين، كان المكيون قد بذلوا جهودا فردية للتخلص من الرسول، وكانت تلك الجهود كلها قد منيت بالاخفاق. لقد قاوموه أشدّ مقاومة، واضطهدوه أقسى اضطهاد. ولكن كأس جرائمهم كانت ما تزال في حاجة إلى قطرة واحدة حتى تطفح. وأخيرا أزفت الساعة. وإذ ألفوا الرسول وحيدا، أو يكاد، عقدوا مؤتمرا كبيرا في دار النّدوة، حيث تعوّدوا أن يناقشوا مختلف القضايا القومية ويبتّوا فيها. وإنما اجتمع زعماء قريش هناك ليتشاوروا في ما ينبغي أن يفعل بالرسول. فاقترح بعضهم أن يحبس في الحديد، ويطرح في غيابة قبو، ويجوّع حتى الموت. ولكن هذا الاقتراح لم يحظ بالموافقة، على اعتبار ان صحابته قد يمسون أقوياء ذات يوم، وقد يوفّقون إلى اطلاق سراحه. واقترح آخرون ان ينفى من البلاد، ولكن هذا الاقتراح أيضا لم يقترن بالموافقة، خشية ان يتمكن الرسول، حيثما أبعد ونفي، من اكتساب قلوب القوم بتعاليمه المؤثّرة، وخشية ان تتمّ له هناك قوة تمكّنه آخر الأمر من التغلب على قريش في يوم من الايام. وأخيرا اقترح ابو جهل ان يختار من كل بيت من بيوتات قريش فتى شاب جليد كريم المحتد وان يعطى كل منهم سيفا باترا، فيضربوه جميعا ضربة رجل واحد.
وهكذا يتفرق دمه بين القبائل، ولا تحمّل أيما قبيلة مفردة جريمة قتله. ويقنع بنو هاشم عندئذ بالدية بدلا من الثأر. وحظي هذا الاقتراح بقبول اجماعي. وفيما كان القرشيون يستكملون خطتهم هذه نزل الوحي على الرسول فأعلمه بالذي بيّتت له قريش، وأمره بأن لا يلزم فراشه تلك الليلة. ودعا الرسول عليّا، فحدّثه حديث الأمر