الغار نفسه. وكان رفيقه قد خشي أن يدركهما القوم فابتأس وحزن.
ولكن الرسول واسى صديقه، في تلك اللحظة الحرجة، وسأله ان لا يحزن لأن الله معهما. [إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.] * وهذا الايمان الوطيد العميق الجذور في العون الالهي كان في الحق هو سرّ تفاؤله في أشد الأحوال قسوة وأدعاها إلى اليأس. إن أيما لفظة قنوط أو خيبة لم تند من شفتيه قط. يا للمغايرة! لقد عرفت الدنيا نبيا لم يكد يواجه مثل هذه العقبات القاهرة حتى أطلق كلمات الخيبة، قائلا إنه يؤثر ان يلتحق بآبائه وأجداده. وعرفت نبيا آخر عبّر عن يأس مماثل في حال من العجز المطلق فقال: «الهي! الهي! لم خذلتني؟» أما محمد، صلوات الله وسلامه عليه، فلم يعرف أيما قنوط، أو يأس، أو فزع. كان كلما نابت الخطوب وادلهمّت توهج قلبه بالأمل. وفي هذه الساعة من ساعات العجز الأقصى، حين بدا- من الزاوية البشرية- أن الرسول قد حرم الأمن حتى في مفزعه الأخير بغار ثور، هتف بقلب مفعم بالأمل والثقة: «إن الله معنا.»
وخلال الفترة المكية، الممتدة على ثلاث عشرة سنة ونيّف، تعيّن على الرسول أن يعمل في وجه مقاومة من أعنف المقاومات وأمرّها.
لقد خلقت قوته الروحية نحوا من ثلاثمئة عملاق من عمالقة الروحانيّة، الذين لم يتزعزع ايمانهم به لحظة واحدة، والذين نصروه برغم ضروب التعذيب المبرّحة، والذين هجروا بيوتهم وممتلكاتهم ولكنهم لم يهجروه
(*) السورة 9، الآية 40.