أن يتساءل لماذا يفعل الرسول ذلك. وهكذا نزل عند ارادة الرسول، في اذعان لا يعرف التردد، ورافق الرجلين المكيّين عائدا إلى حيث كان الموت ينتظره ويحدّق إلى وجهه عن كثب. لم تكن ثمة قوة أرضية تقيه غيظ قريش، وكانت غريزة حفظ الذات تكرهه على النجاة بنفسه. لقد قال في ذات نفسه إن عليه، أيا ما كانت النتائج، ان يضرب الضربة التي تنقذ حياته. وهكذا اغتنم فرصة ملائمة أتيحت له فقتل واحدا من حارسيه، على حين ولى الآخر الأدبار فرارا من الموت. ولكن المدينة كانت لا تزال أرضا محرّمة عليه. إن عليه ان يبحث عن مفزع له في مكان آخر. وهكذا نزل العيص على ساحل البحر [في طريق قريش إلى الشام] ، وكان شبه منطقة محايدة.
ومن ثم فزع سائر المسلمين المضطهدين في مكة، والذين أوصدت في وجوههم أبواب المدينة، إلى الموطن نفسه، فإذا به ينمو، شيئا بعد شيء، ليصبح آخر الأمر مستوطنا كبيرا للاجئين المسلمين. ولم يكونوا ثمة بخاضعين لأحكام صلح الحديبية. وسرعان ما أوقعت قوّتهم النامية الذعر في قلوب القرشيين، الذين خافوا ان يعمد هؤلاء المسلمون، في يوم من الايام، إلى اعتراض طريق تجارتهم مع الشام. وهكذا رأوا ان من الخير لهم أن ينسخوا المادة التي فرضت إعادة الفارين من مكة [إلى مكة] ، إذ وجدوا ان مثل هذا النّسخ خليق به أن يضعف مستوطن «العيص» إضعافا كبيرا.